زاوية مضيئة
بقلم: د/ امتثال بشير
“أنا من غُبار الأرض قد نَشَأتُها… لا الريحُ تعلو بي، ولا الماءُ ينقلُ”
— محمد المهدي المجذوب
نعم، كتب الكثيرون من أبناء السودان عن بعض صفات وملامح أبنائه؛ وفي الكثير مما كُتب صدق، لو أنهم استبدلوا (نحن) بـ (الكثيرين منا)، حتى لا يُحمِّلوا الشعب بكامله وزر الممارسات الفردية أو الفئوية التي لا تعبّر بالضرورة عن الجموع.
ونعم، فإن الإصلاح يبدأ من قاعدة الهرم، لا من قمته، كما كانت تؤمن صحيفة “كردفان” الغرّاء، وصاحبها ورئيس تحريرها الراحل الفاتح النور، التي كانت تُطبع في الأبيض وتصدر صباح كل جمعة ومساء كل اثنين.
ونعم أيضًا، لأن الله قال في محكم تنزيله:
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” [الرعد: 11]
وكما في الحديث الشريف:
“كما تكونوا يُولَّى عليكم”
فهل قارَنّا حالنا اليوم، بحال من ساهمنا في بناء نهضتهم الحضارية؟
أو بمن أعنّاهم في نيل استقلالهم؟
سنجد أن المسافة بين حالهم الآن وحالنا، سنة ضوئية… إذ نعيش وكأننا في عصر ما قبل التاريخ!
لكن، رغم كل ذلك، فإن الأمل لا يُقتل، ولا تُجتث إرادة الشرفاء من أبناء وبنات شعبنا، الذين ما زالوا يؤمنون بأننا نستحق مكانًا لائقًا تحت الشمس، لأننا لم نُخلق من طينة الفشل ولا الحقد ولا الحسد، ولا من طينة الانفصام الأخلاقي أو الإنساني.
نحن بشر، مثل سائر البشر، متى ما احترمنا نعم الله علينا، واقتدينا بهدي المصطفى، ووعينا قول الحق:
“من تواضع لله رفعه”
وكما قال الأستاذ الراحل بدرالدين مدثر:
“أقوياء بلا غرور، ومتواضعون بغير ضعف… أشدّاء على من ظلمنا – إلا من تاب – رحماء على المظلومين.”
لكن، لا بد أن نُذكِّر أيضًا بجوانب مضيئة في واقعنا، أغفلها البعض، أو تجاهلها:
لقد شهد السودان ثلاث انتفاضات كبرى ضد أنظمة الاستبداد والفساد، وكلها جاءت من رحم هذا الشعب، وتُعد دليلًا قاطعًا على أن هذا المارد الشعبي لا يموت، بل ينهض أكثر عنفوانًا كلما سقط.
تغيُّر موازين القوى لا يأتي صدفة، بل من وعي الشعب وتضحياته، وهو ما رأيناه جليًا في انتصارات أكتوبر وأبريل وديسمبر.
أما من يُلقي باللائمة على الجميع دون استثناء، فقد تعامى – عن قصد أو عن جهل – عن التحذيرات التي أطلقها كُثر، من ضمنهم كتاب وصحفيون، حول أداء بعض مرشحي قوى “ق.ح.ت”، خاصة منظمات المجتمع المدني، بأن المرحلة تتطلب قيادة سياسية حقيقية، لا مجرد إدارة شكلية أو رمزية.
لقد فشلت بعض القيادات المدنية في الصمود، وأثبت الواقع أن الإرث السياسي وحده لا يكفي إن لم يكن متصلًا بالجماهير، وإن لم يُترجم إلى أفعال واقعية تُحدث فارقًا في إدارة الدولة.
حين يُتَّهم الجميع بالتقصير، وكأننا جميعًا على درجة واحدة من المسؤولية، فإننا نُفرغ النقد من معناه، ونقع في العمومية المضللة.
تاريخنا ليس كله ظلامًا… فقد صدح الشهيد عبد الله محمد عبد الرحمن (الأنفزبل)، في دار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، قبل أيام من ثورة أكتوبر، بقوله الذي سُطّر لاحقًا في صحيفة “الرائد”:
“Slavery is a shameful trade. We don’t ignore it, we condemn it.”
“العبودية تجارة مُخزية، نحن لا نتجاهلها، بل ندينها.”
نعم، إن جاء هذا النقد من شاب من الباوقة (نهر النيل)، ومن فصيل سياسي قومي عربي، فإن له دلالات عدة:
أن شبابنا ما زالوا يمتلكون وعيًا حيًا.
أن أبناء النيل لا ينكرون صفحات تاريخهم السوداء.
أن العروبة ليست عنصرية، بل تُمارس عند البعض بوعي تقدمي.
أن هذا النقد جاء من مواجهة حقيقية للسلطة، لا تبرئة لها.
أن الاستبداد السياسي، بما يمثله من تهديد شامل للوطن، يُقاوَم بوضوح، عكس مظاهر الاستبداد الجهوي أو الصوفي، التي تُغذّي العصبيات ولا تُوحِّد الصف.
في الختام، نعم، لدينا مشاكل بنيوية، وأمراض اجتماعية، لكن المشكلة الحقيقية ليست في الاعتراف بها، بل في التعميم القاتل، والجلد غير المنتج للذات.
لا نريد جلد الذات، بل نريد نقدًا واعيًا، يُفرِّق بين الحقيقة والتحامل، وبين التعميم والتحليل، وبين جلد الذات وتحفيزها.
نحتاج إلى ثورة فكرية معرفية حقيقية، لا تتعالى على الناس، ولا تمارس دور الواعظ من برجه العاجي، بل تنخرط معهم في التحول الجماعي، بإرادة جماعية.
ونختم كما بدأنا ببيتٍ لشاعرنا محمد المهدي المجذوب:
“ما لي وللنجم يرعاني وأرعاهُ، أمسى كلانا يعاف الغمض جفناهُ”
“إصلاح الرأس يبدأ من قاعدة الجسد، فلنبدأ بأنفسنا.”
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل سنفعلها؟؟؟؟
#يتواصل…….

Leave a Reply