أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
في ذاكرة الشعوب، هناك لحظات لا تُنسى لأنها لا تمرّ، بل تستمرّ. ولعلّ أكتوبر السودانية كانت لحظة الميلاد لتلك الذاكرة الخلّاقة التي لا تحفظ الأحداث بل تُعيد إنتاجها كلما عاد الاستبداد بثيابه القديمة. بعد واحدٍ وستين عامًا، لم تعد أكتوبر مجرّد ذكرى تُروى في المناسبات، بل غدت جينات حيّة في جسد الوطن السوداني، يتحرك تلقائيًا حين يُهدَّد الطغيان روحه، ويستعيد نبضه كلما حاول الموت أن يُسدل ستاره.
لقد أثبت التاريخ السوداني أن المقاومة ليست قرارًا سياسيًا بل غريزة وجودية، وأن الذاكرة الوطنية ليست خزانًا للماضي، بل مصنعًا لإعادة إنتاج الرفض، كما قالت كلمة الهدف: (أكتوبر كشفت عن المثابرة على النضال الحازم من أجل السلام والوحدة والعدالة).
إنها ليست ثورة حدثت وانتهت، بل جين مقاوم يتوارثه الوعي الجمعي، يتبدل شكله ولا يفقد روحه، يتجدد بأسماءٍ جديدة لكنه يظل يحمل الرسالة ذاتها، في أن الحرية لا تموت، لأنها جزء من الجينات الأولى للإنسان.
كانت أكتوبر هي لحظة الكشف الأول، لحظة إعلان الشعب عن اكتشافه لسلاحٍ لا يُهزم، وهو الإرادة الواعية. لقد قدّمت للعالم (النظرية السودانية في التغيير السلمي)، وأثبتت أن الشعوب قادرة على إسقاط الدكتاتوريات بالعقل لا بالعنف، بالوعي لا بالرصاص.
لقد أسقط السودانيون في أكتوبر أسطورة القوة، وأعادوا تعريفها، فجعلوا من (الضعف المنظم) قوةً لا تُقهر. كانت أكتوبر لحظة تعرية لمفهوم السلطة، وكشفًا عن أن الشرعية لا تصنعها البنادق بل تصنعها الكرامة الجمعية. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت أكتوبر المرجع النظري والوجداني لكل حراكٍ لاحق، تشبه في روحها (مانيفستو الحرية) الذي لا يهرم، بل يتجدد كلما تنفّس الناس هواء المقاومة.
لم تكن أبريل 1985م تكرارًا لأكتوبر، بل كانت مرحلة التطور الطبيعي للجينات الثورية.
لقد دخلت الثورة السودانية في طور النضج التنظيمي والفكري، حيث تجاوزت مرحلة المفاجأة إلى مرحلة الوعي بالممكن والمستحيل. استفادت أبريل من ذاكرة أكتوبر، لكنها أضافت إليها عقل التجربة. تعلمت من أخطاء الماضي، ووسّعت قاعدة المشاركة، ورفعت شعاراتٍ أكثر وضوحًا في مواجهة السلطة والفساد. كانت أبريل بمثابة إثبات علمي لفكرة أن المقاومة كائن حيّ يتكيف مع البيئة السياسية والاجتماعية، وأن الثورة ليست لحظة انفجار، بل عملية مستمرة من البناء والهدم، من النقد والتجديد، من الذاكرة والفعل.
ثم جاءت ديسمبر 2018م لتعلن اكتمال دورة الجينات الثورية، ولتجسد لقاء الذاكرة بالتكنولوجيا، والإرث بالحداثة. لقد كانت ثورة ديسمبر ابنة شرعية لأكتوبر وأبريل، لكنها حملت في رحمها جينات العصر الرقمي، فحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ميادين للنضال، وصاغت من الكلمة والصورة والمشاركة الإلكترونية أدوات مقاومة غير مسبوقة.
في ديسمبر لم تعد الثورة حدثًا في الشارع فقط، بل أصبحت حالة وعي ممتدة، وفضاءً يتجاوز الجغرافيا.
كانت الثورة أكثر تنظيمًا وأعمق وعيًا، فهمت أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن (إرادة الحياة) هي القانون الأعلى الذي لا يعترف بسلطةٍ سواه.
من أكتوبر إلى ديسمبر، ظل الخيط الناظم هو الإيمان العميق بالمقاومة السلمية كمنهج استراتيجي لا تكتيك ظرفي.
توارثت الأجيال السودانية هذا المبدأ كما تتوارث الشعوب لغتها الأولى، فكل انتفاضة كانت تبني على سابقتها لا لتكررها، بل لتُكملها.
ومن قلب التجربة، ترسخت قناعة أن التنظيم هو روح المقاومة، وأن النقابات المهنية والاتحادات العمالية هي (العصب الحي للثورة). لقد كانت تلك المؤسسات أكثر من أدوات؛ كانت ضمير الوطن المنظم الذي يحول العاطفة إلى وعي، والغضب إلى خطة، والاحتجاج إلى فعل سياسي منضبط.
في كل مرة، أثبتت التجربة السودانية أن تحالف الجماهير مع القوى المهنية والسياسية الواعية هو الضمانة الكبرى لنجاح أي انتفاضة، وأن الثورة التي لا تمتلك عمودًا نقابيًا صلبًا سرعان ما تتهاوى.
لم يكن السودان ساحة عابرة للثورات، بل كان مختبرًا حيًا لصياغة نظرية إنسانية في التغيير السلمي.
لقد قدّم تجربة متكاملة للوطن العربي والعالم الإفريقي، مفادها أن التراكم هو سر التحول، وأن التاريخ ليس خطًا مستقيمًا، بل نهرًا يفيض من المنبع ذاته كلما انسد مجراه.
تقوم هذه النظرية على أربعة أعمدة:
1. التراكم: لا نصر بلا ذاكرة.
2. التجديد: لا مقاومة بلا تطوير في الأدوات.
3. الاستمرارية: الثورة ليست حدثًا، بل سيرورة تاريخية.
4. الشمولية: لا تحرير وطني بلا تحرر اجتماعي وثقافي.
وهكذا، أصبح السودان بمسيرته الطويلة نموذجًا عربيًا أصيلًا للثورة الهادئة، الثورة التي تتنفس بالحكمة وتضرب بالوعي.
الخاتمة: من أكتوبر إلى ديسمبر، يثبت الشعب السوداني أن التاريخ ليس ماضيًا، بل جينًا حيًا يسكن خلايا الوطن، ويعيد إنتاج ذاته كلما حاول الظلم أن يقطع الشريان بين الأرض والحرية.
إنها ليست مصادفة أن ينهض هذا الشعب في كل عقدٍ بثورةٍ جديدة، بل هو منطق الحياة التي لا تعرف الاستسلام. فإن الشعوب لا تموت حين تُقهر، بل حين تنسى. والسودان، لأنه لا ينسى، فإنه لا يموت.
المجد لشهداء الحرية من أكتوبر إلى ديسمبر، والخلود لإرادة شعبٍ لا يعرف المستحيل، ولنظريته الثورية التي علمت العالم أن السلاح يُهزم حين يواجه جينات الوعي.

Leave a Reply