توفيق قسم الله
كاتب وشاعر إرتري
#ملف_الهدف_الثقافي
كلما تجولت في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الإرترية، خرجت منها أراجع قناعاتي القديمة عن العقل الإرتري. أصادف ضجيجًا يُقدَّم كفكر، وشتائم تُطرح كحجج، وانفعالًا يُؤخذ كدليل على الفطنة والذكاء. وحين ألتقي ببعضهم وجهًا لوجه، أدرك أن الكارثة ليست افتراضية فقط، بل لها جذور واقعية ومؤلمة.. نعم، والله، وللأسف الشديد.
المشهد لا يحزن لأنه ناقص، فالكمال أصلًا مستحيل؛ لا مجتمع كامل على وجه الأرض، بل حتى الفرد لا يخلو من النقص. لكن المؤلم أن تصل إلى قناعة بأن هذا المشهد غير قابل للنمو أو التغيير إلى الأفضل، هذه قناعتي من خلال قراءتي للمشهد تقريبًا لعقدين من الزمن. أنا لا أطالب بأن يكون مجتمعنا مثاليًا، فهذا محال ولن تجده إلا في المدينة الفاضلة الأفلاطونية. كل ما أريده هو أن لا تتصدر أسوأ النسخ الواجهة.
لكن يبدو أن القاع لا يكتفي بالبقاء في الأسفل.. بل يطمح للقيادة أيضًا.
صار النقاش في هذا الفضاء الافتراضي أقرب إلى ساحة قتال؛ لا مكان فيه للعقل. المكان للولاءات، والعقد، و”الشلليات” التي تقيم حفلات شواء رمزية بلحم بشري، حيث تُفسَّر نواياك قبل أن تتكلم، أو تكتب، أو تصرح. هذا لا يعني إنكار وجود عقول نيرة ومفكرين شامخين في المشهد الإرتري، تمامًا كشموخ “إمبا”. لكن الضجيج عادةً ما يعلو على صوت العقل.
ومن الكوميديا السوداء أن يتصدر المشهد من لا يشبه نبض المجتمع ولا يعكس روحه، حتى خفتت أنوار الفكر وارتفعت أصوات لا تحمل إلا الصدى. لكن الجذور الحية لا تموت. ستنهض ذات فجر تلك العقول، لتعيد للأرض ملامحها، وللناس لغتهم التي تشبههم.
أنماط تتصدر المشهد الإرتري:
-
وجه حسب الطقس: كائن غريب.. معك يتنهد ساخطًا، يهز رأسه موافقًا كأن قلبه قلبك ولسانه لسانك، ومع غيرك يبدّل الملامح والنبرة والموقف، كمن يبدّل حذاءه عند باب كل بيت. كلامه كالمرايا المكسورة: يعكس كل شيء، ولا يظهر شيئًا حقيقيًا.
-
وحيد زمانه.. وضحية قومه: يمشي بيننا وكأن الأرض ضاقت بعبقريته. يحمل وجهًا يشبهنا، لكنه يصرّ أن داخله شيء لا يتكرّر. إن تكلّم.. تكلم بتنهيدة المثقف المرهق من “جهالة” قومه، وإن صمت.. صمت كمن يحمل مأساة أنه ولد هنا بيننا. يرى نفسه “النابغة الذي ضلّ به البريد”، ويظن أن المجتمع لا يستحق عبوره. لكنه في الحقيقة ليس أكثر من فقاعة أنيقة صنعتها مرايا الغرور ونفختها أوهام العظمة. إن دققت النظر.. ستراه طفلًا صغيرًا جلس على كرسي مرتفع، ونسي أن قدميه لا تلامسان الأرض.
-
معارض.. نسخة تجريبية: يرفع صوته ضد النظام، يشتم القمع، يلعن الاستبداد، ويكتب منشورًا حارقًا كل يوم. لكن ما إن يمنح ذرة سلطة، يخرج “الديكتاتور الصغير” من تحت جلده. ينهى عن القمع.. ثم يقمع المخالف. يطالب بالحرية.. إلا حرية نقده. ينّد بالتطبيل.. ثم يطلب المديح إذا عطس. يتحدث عن “دولة القانون”.. ثم يطرد من مجموعته أو صفحته كل من لا يعجبه مزاجه. لا يختلف كثيرًا عن النظام الذي يهاجمه.. سوى أنه لم يصل إلى القصر بعد.
-
الوطني بالتقسيط: يعتاش على فتات الشعارات، ويتوضأ بالوطن قبل كل صفقة. لسانه مرآة لكرسي المستبد.. يلمع حيث يؤمر، ويخرس حيث يجب. يرتدي الوطنية كبدلة رسمية في المهرجانات.. ويخلعها على أبواب المصلحة. يخطب عن الكرامة والسيادة.. وهو يقبّل الأحذية بحثًا عن مصلحة أقلها زيارة الوطن. وحين يسقط الطاغية.. يبدّل جلده، ويكتب سيرة من نضال لم يعشه، وصمت لم يدفع ثمنه. عندما يموت هذا الإمعة.. لن يفتقده أحد سوى الكرسي الذي كان يلمّع ساقيه بلسانه.
-
فيلسوف الأرصفة الباردة: هذا أسوأهم.. لا أتحمله، والله لا أتحمله. يجلس على رصيف الحياة كما يجلس القاضي على منصة الحكم خلف الشاشة، فقط ينقر الكيبورد وينفث عبره حِكمًا باردة كشتاء بلا كهرباء، ويرمق العالم من أريكته المهترئة كأنه حارس بوابة النجاح العليا. كلما رأى إنجازًا يلوّح بيده باستهانة، يبخس الجهد ويقلل من العزيمة. يقارن أعمال العمالقة بكوب شاي سقيم نسيه على النار، وهو لم يجهد يومًا حتى في التنفس، كأن الأكسجين وجد خصيصًا لتدليل خياشيمه التي يحشرها فيما لا يعنيه. يجلس في ظل “إنجازه”، إن كان له أصلًا، ويتفيّأ أوهامًا صنعتها عقدة النقص، ويقيس العالم بمترٍ من الكسل.
يسخر من الكاتب لأنه كتب، من المهندس لأنه شقّ الأرض، من المبرمج لأنه خيط الشفرات.. أما هو.. فيكفيه أنه جلس خلف الشاشة وتأمل، و”فهم كل شيء” دون أن يخطو خطوة واحدة نحو أي شيء.
مرآتنا المرة: وبعد بحث وتأمل، وصلت إلى هذه الحقيقة المرة: نحن كالعنب في أواخر الصيف.. لا نحن ناضجون بما يكفي للقطاف.. ولا نحن خضر بما يكفي لنَبقى. نحتاج مزيدًا من الشمس، أو الوقت، أو الصفعات، حسب المدرسة الفكرية.
الخروج من واقعنا؟ نعم، ممكن، لكن قبل ذلك علينا أن نرتقي قليلًا، ونخرج من حوارنا الذاتي الطويل، وأن ننضج. بهدوء. كالعنب. على نار هادئة.. إرترية خالصة.
#ملف_الهدف_الثقافي
#توفيق_قسم_الله
#الشباب_الإرتري
#منصات_التواصل
#المجتمع_الإرتري
#نقد_اجتماعي
#رصد_الواقع
#تحليل_اجتماعي

Leave a Reply