المحرر الثقافي
#ملف_الهدف_الثقافي
حين اندلعت شرارة انتفاضة 21 أكتوبر 1964، لم تكن مجرد انتفاضة شعبية ضد حكم عسكري، بل كانت انفجارًا وجدانيًا في قلب الوعي الجمعي السوداني. كانت انتفاضة مثقفة، صاغ عنفوانها الشعر، وأوقد نارها القلم، وغُذِّي مداها باللحن، فكان اللحن المغنّى فيها خطابًا وطنيًا بليغًا وأملًا، والقصيدة بيانًا ثوريًا أكثر تأثيرًا وانتشارًا من الخطب والمنشورات.
في أكتوبر، لم يكن الفن على هامش الحدث، بل كان هو المتن. كتب كبار الشعراء والمسرحيين محمد المكي إبراهيم، وهاشم صديق، والفيتوري، وفضل الله محمد… ليس حصرًا، نصوصًا تحوّلت إلى ذاكرة وطنية حيّة. غنّى محمد الأمين بصوته العذب الأكتوبريات، وارتبط اسمه بأمّ الانتفاضات ارتباط الروح بالجسد، حتى صار صوته هو النشيد غير المعلن للوعي السوداني الجديد. وفي المقابل، حمل محمد وردي راية اللحن الوطني بجدارة في “أصبح الصبح” و”أكتوبر الأخضر”، بينما كان عثمان حسين وكابلي يرفدان المشهد بنغم الوجدان والكرامة.
أما الكورال، في «قصة ثورة» أو «الملحمة» كما يُطلق عليها، فقد شكّل ذروة التعبير الجمعي، حيث امتزجت الأصوات في لحنٍ سيمفونيٍّ واحدٍ، صاغ “المخزون الثوري الهائل” الذي عبّرت عنه أكتوبر كما جاء في كتاب البعث وقضايا النضال الوطني، كأنها الوطن وهو يستعيد صوته وينشد مستقبل الوحدة والسلام والديمقراطية والتقدم.
لكن السؤال الذي ينبغي البحث عن إجابته: لماذا لم تبلغ أناشيد انتفاضة مارس/أبريل 1985 ذلك العمق والثراء الثقافي والوجداني؟
ربما لأن أكتوبر، التي كانت متجذّرة فينا منذ الأزل كما وصفتها إحدى الأغنيات الخالدة، كانت ثمرة مشروع نهضوي وفكري تشكّل في مطلع الخمسينيات والستينيات، حين كان الشعراء والملحنون والمفكرون وطلائع القوى الحية يحلمون بوطن يتأسس على الحرية والعقل والجمال. كانت الكلمة آنذاك تؤمن بقدرتها على التغيير، وكان الفن يعيش في قلب المعركة لا على أطرافها، كأحد تجليات بروز وتنامي تأثير قوى الحداثة المجتمعية التي فاجأت نفسها، والوطن العربي وإفريقيا، بابتكار الانتفاضة الشعبية السلمية كسلاح جماهيري غير مسبوق في مواجهة الدكتاتورية والحلول العسكرية لقضايا التطور الوطني.
لذلك أصبحت أكتوبر ملهِمًا إبداعيًا وفكريًا خصبًا خلال السنوات التالية لها وحتى الآن، بعثًا وتجددًا، في انتفاضتي مارس/أبريل 1985 وديسمبر 2018، وما بينهما من تراكمات نضالية وجماهيرية.
إن أكتوبر تذكّرنا دائمًا بأن الثورة ليست هتافًا فحسب، بل موقفًا فكريًا وثقافيًا شاملًا. فالمثقف، والشاعر، والفنان، والروائي، والموسيقي، والتشكيلي، والدرامي، والكاريكاتيري، جميعهم جنودٌ في معركة الوعي. هم من يواجهون الحرب بخطاب السلام، ويقفون في وجه الكراهية بالمحبة والتعايش، ويهدمون جدران الجهوية والعنصرية بريشة اللوحة، ويقاومون القبلية بنبض القصيدة، والدكتاتورية والتسلط والفساد بالمسرح والدراما والإنشاد الجماعي.
إنهم الحصن الذي لا يُهدم في مواجهة مشروع التقسيم وعسكرة الحياة وابتذال الإنسان واستغلاله.
فما لم تنتصر مفاعيل الفكر والثقافة على فوهات الرَّصاص، سيبقى الوطن في انتظار ثورته الحقيقية… الثورة التي تكتبها الفكرة وتغنيها الروح، وهي آتية لا ريب فيها.
#أكتوبر_1964 #الثقافة_السودانية #الانتفاضة_الأولى #محمد_الأمين #محمد_وردي #هاشم_صديق #الفيتوري #محمد_المكي_إبراهيم #الثورة_الثقافية #ملف_الهدف_الثقافي #السودان #الثقافة_و_الثورة #الفن_الملتزم #أكتوبر_الوعي #أصبح_الصبح

Leave a Reply