عواء “القونات” في الأسافير: الوجه الآخر لدواعي الحرب

صحيفة الهدف

محمد حسن رابح المجمر
#ملف_الهدف_الثقافي

قبل نحو أربع سنوات، كتبتُ روايةً بعنوان “حالة تمرد”، وهي سيرةٌ ذاتية غيريّة، متخيَّلة تمامًا، عن حياة مغنّية شعبية (قونة). نالت الرواية شهادة تقديرية من جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، لكن ذلك ليس موضوعنا هنا.

تنبأتُ في تلك الرواية بانفجارٍ (خارج السيطرة) داخل مجتمع القونات، لأسباب تتعلّق بالمنافسة في بيئةٍ اقتصادية تضيق فيها فرص الصعود، وبالسؤال عمّا إذا كان ثمة جديد يمكن أن يقدمنه للجمهور. كانت تلك مغامرتي السردية التي لم أنشرها بعد، لأسباب تعرفونها.

لكن، من هو المخاطب الحقيقي بغناء القونات؟ وما طبيعة اللغة التي يحملها هذا الخطاب؟ ثم ما الأثر الثقافي الذي يخلّفه هذا الضجيج المتصاعد؟

للأسف، إنهنّ يخاطبن رجلًا بعينه، محدّدًا في نطاقهنّ الاجتماعي الضيّق، على عكس غناء البنات التقليدي والمتوارث، حيث الخطاب موجَّه إلى المطلق، إلى الرجل في صورته العامة، بمواصفات لا تقبل التخصيص. غير أن (قونة اليوم) تخاطب رجلًا معلومًا، بجرأةٍ في التودد والتغزل لا تنسجم مع الطبيعة المحافظة للمرأة في مجتمعاتنا المحلية. أما اللغة التي يُقدَّم بها هذا الخطاب، فأقلّ ما يمكن أن توصف به أنها مبتذلة.

يتميّز هذا المجتمع الجديد، أي مجتمع القونات، بطفيليّته وشراهته في البحث عن المال والوجاهة الاجتماعية بلا استحقاقٍ حقيقي. إنها تحوّلات الشخصية المنسية في قاع المدينة، حين تقفز فجأةً إلى عوالم الشهرة والمال. والسؤال الذي يُلحّ عليّ دائمًا: ماذا يحدث للفرد (ذكرًا كان أم أنثى) عندما ينال من الشهرة أكثر مما يستحق؟

الجواب: لا شيء سوى تضخّم الذات، واستعراض الثراء الفاحش بمزيدٍ من العُري النفسي والجسدي، وبهدم الأعراف الاجتماعية التقليدية، وتحدّي المجتمع من دافع وهم التفوّق. يترافق ذلك مع تكريس لغة (الجنبات) ببذاءتها الصارخة، ثم التآكل الداخلي الناتج عن محاولات الهروب من ماضي الفقر والسقطات الاجتماعية، وصولًا إلى التزاحم بالمناكب في سوق الغناء الهابط.

ولا نتردّد في القول إن المساحة الواسعة من الفراغ والوقت المهدر، التي فرضتها الحرب الدائرة في بلادنا منذ أكثر من عامين، كانت كفيلةً بكشف حجم التآكل الداخلي في نفوس كثيرٍ من هؤلاء القونات. فالحرب، كما نعلم، لها وجوهٌ متعددة: سياسية، واجتماعية، وثقافية. وما يدور في الميديا من صراعاتٍ بين بعض القونات ليس سوى وجهها الثقافي المشوَّه.


#القونات #الثقافة_السودانية #الهدف_الثقافي #غناء_القونات #الفن_الشعبي #الثقافة_في_زمن_الحرب #الإعلام_الرقمي #السودان #محمد_حسن_رابح_المجمر

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.