طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
بينما يدور الكون في صمته المهيب، تُسمع من على أرض السودان أصواتُ الانفجارات وهمساتُ الجوعى. لقرونٍ، بحث أجدادنا على ضفاف النيل عن (المعنى) في النجوم، ورسموا للوجود غاياتٍ تتسق مع إرادة سماوية أو قدر محتوم. لكن اليوم، وفي خضم المحنة، يبدو السؤال القديم جديدًا: أين الكون مما يحدث؟ أين هو من دموع طفلٍ في دارفور، أو من صبر امرأةٍ في الخرطوم؟ الإجابة الصادمة، والتي قد تكون منقذة، هي: الكون صامت. وهو بصمته هذا يمنحنا أعظم هدية، حرية أن نكون أبطال قصتنا، لا مجردَ ضحايا لقصةٍ كُتبت لنا.
لطالما سأل الإنسان السوداني، كغيره من العرب، سؤال (لماذا نحن؟) في لحظات المحن. هذا السؤال يحمل في طياته اعتقادًا بأن الكون (يُعنى) بنا، إما بالعقاب أو الامتحان. لكن الحقيقة الأكثر قساوةً وتحرراً هي أن الكون لا يعنيه أمرنا. هذه المحنة ليست (عقابًا) ولا (امتحانًا) من قوى كونية، بل هي نتيجة معادلة بشرية بحتة: سياسات، أطماع، تحالفات، قرارات. هذا الانزياح من سؤال (اللماذا) الكوني إلى سؤال (ماذا سنفعل؟) الإنساني هو تحرر من ثقل (المظلومية الكونية) إلى فضاء (المسؤولية البشرية). المعنى ليس شيئًا نكتشفه مكتوبًا في النجوم، بل شيء نصنعه بأيدينا على الأرض. وهو يبدأ بقرار واحد: وقف الحروب.
إذا كان الكون لا يتحيّز، ولا ينحاز للعربي عن غير العربي، ولا للمسلم عن المسيحي، ولا للسوداني عن الأوكراني، فلماذا نفعل نحن؟ هذا الصمت الكوني يخلق مساحةً أخلاقية فارغة، لكنها ممتلئة بالإمكانات. إنه يفرض علينا مسؤولية خلق معنى تضامننا الإنساني بأنفسنا. الناس حول السودان اليوم لا ينقذهم غيثٌ من السماء، ولا تدخل إلهي، بل ينقذهم الجسر البشري المكوّن من جارات يتقاسمن رغيف الخبز، ومن أطباء متطوّعين يخفّفون الآلام، ومن شباب ينقلون الأخبار. هذا التضامن هو (الجمال) الذي نخلقه نحن على قماش (الصمت) القاسي للواقع. هو إثباتنا أن الإنسان، عندما يتحرّر من انتظار المعجزة، يصبح هو المعجزة. والمعجزة الأولى والأعظم الآن هي أن نعمل، كلّ من موقعه، من أجل إسكات دوي المدافع وإطلاق رصاصة السلام الأخيرة.
تقول القيمة الأصيلة: (الجار للجار). هذه العبارة البسيطة هي ردّ فلسفي وجودي عظيم على صمت الكون. إذا كان الوجود لا يضمن العدالة، فليكن بيتي هو ملجأ المظلومين. إذا كان القدر لا يطعم الجائع، فليكن طعامي له. الكرم هنا ليس مجرد خُلُق، بل هو تمرد على لامبالاة الوجود. هو إعلان أن (المعنى) سيُصنع حول موائدنا، في ظل خيام النازحين، وليس في قصور الحكام أو في مجرات نائية. وهذا الكرم يتجلّى اليوم في كل موقف يرفض فيه السوداني الانقسام، وفي كل مبادرة وساطة محلية، وفي كل صوت يعلو مطالبًا بوضع السلاح والجلوس إلى طاولة الحوار. فالعمل على وقف الحرب هو أسمى أشكال الكرم، لأنه كرمٌ بالحياة نفسها.
لذلك، عندما ننظر إلى سماء الليل الصامتة فوق الخرطوم المدمرة، لا يجب أن نشعر بالوحشة، بل بالتحرر. الكون لم يتخلّ عن السودان، لأنه لم يكن أبدًا طرفًا في معاناتها أو ازدهارها. المعاناة مسؤوليتنا، والازدهار مسؤوليتنا أيضًا. ومسؤوليتنا الأولى الآن هي وقف هذه الحرب. الحرية التي منحنا إيّاها هذا الصمت الكوني أقسى من أي قدر محتوم، لأنها تضع عبء الخلاص على عاتقنا. لكنها أيضًا أجمل، لأنها تذكرنا أن البطل الذي ننتظره ليس قادمًا من السماء. البطل هو ذلك الطفل الذي يرفع حجرًا من بين الأنقاض ليبدأ في البناء مرةً أخرى. وهو الشاب الذي يختار أن يكون طبيبًا لا جنديًا. وهي الأم التي تزرع بذرةً في أرض محروقة. وهم، جميعًا، من يرفعون راية السلام. السؤال الأكبر ليس (لماذا يصمت الكون؟)، بل (ماذا سنقول نحن بصمتنا، وبصريخنا، وبفعلنا؟). وإجابتنا يجب أن تكون واحدة موحّدة — حربنا على الحرب ذاتها.
هاشتاقات مقترحة للانتشار الواسع:
#ملف_الهدف_الثقافي
#صمت_الكون_صراخ_السودان
#طارق_أبو_عكرمة
#السلام_أولاً
#وقف_الحرب
#تضامن_إنساني
#سودان_الثقافة_والأمل
#حرية_ومسؤولية
#الإنسانية_أولاً
#العمل_من_أجل_السلام

Leave a Reply