الافتتاحية: الاقتصاد.. بحثًا عن الروح في عالم الآلة

صحيفة الهدف

#ملف_الهدف_الاقتصادي

إنه ذلك الوحش الحديث الذي يَسكن حياتنا: “الاقتصاد”. نرقب تقلّباته بنوع من الهيبة، نقدّم قرابين السياسات النقدية والمالية استرضاءً لقدرٍ لا نكاد نفهمه. لقد تحوّل إلى كائن أسطوري، غير مرئي، نقرأ نبضه في منحنيات وأرقام، ونستشرف مصائرنا من خلال تقلبات لا نعرف لها سببًا واضحًا أو معنىً إنسانيًا.

لكن ثمة حقيقة جوهرية تختفي خلف هذا الضجيج: لقد غدا الاقتصاد علاقة بين أشياء ومعدلات، بين عروض وطلبات، بين استثمارات وأرباح. وغدا الإنسان فيه مجرد متغير هامشي في معادلة كبرى، أو أداة في آلة إنتاج لا تعرف التوقف. لقد طُردت الروح من المعبد، وغدا الجوهر الإنساني غريبًا في عالمٍ يحسب كل شيء إلا قيمته.

إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الآلية ذاتها، بل في (العقلية الآلية) التي تختزل العالم، والإنسان نفسه، إلى مجرد (مخزون) يمكن استغلاله واستنزافه. أليس هذا هو مصير العامل الذي تحوّل إلى (رقم) في سجل (الموارد البشرية)؟ والمستهلك الذي صار (نقطة بيانات) في (شريحة سوقية)؟ والطبيعة التي أصبحت (مادة أولية) لا أكثر؟ لقد فقد الاقتصاد بوصلة معناه، وغدا نشاطًا بلا روح، وحركة بلا غاية.

ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من الوصفات التقنية فحسب، بل استعادة للبعد الفلسفي الذي يطرح الأسئلة الكبرى: لماذا نعمل؟ وما الغاية من الثروة التي نراكمها؟ وأي عالم نريد أن نبني بقدراتنا المادية؟ العمل، في معناه الأصيل، ليس مجرد وسيلة للعيش، بل هو فعل وجودي، وسيلة الإنسان لترك أثر في العالم، وشهادة على مشاركته في صنع الوجود المشترك. وعندما يجفّ هذا المعنى، يتحول العمل إلى عبء، والحياة إلى مسار بلا وجهة.

والثروة الحقيقية لا تُقاس بأصفار في الحسابات، بل بالطاقة الاجتماعية المتاحة لصنع الجمال والصحة والثقة والمعنى. إن مجتمعًا يزهو بناتجه المحلي وهو يهمل صحة أبنائه أو يسمم بيئته أو يهدر كرامتهم، هو مجتمع فقير في العمق، حتى لو تلألأ بريق أرقامه.

نحن إزاء مفترق طرق تاريخي، ذكاء اصطناعي يعيد تعريف الإنجاز، وتهديدات بيئية تلقي بثقلها على نمط وجودنا، وانزياحات جيوسياسية تعيد تشكيل التحالفات. في هذا المشهد، لم تعد تكفينا إجابات الأمس. أصبح من الضروري أن نعيد فتح النقاش حول الأسس التي يقوم عليها عالمنا الاقتصادي، أن نستبدل سؤال (كيف ننتج أكثر؟) بسؤال (لماذا ننتج أساسًا؟)، وأن نستبدل هوس (الاستهلاك) بتساؤل عن (المعنى) الذي نبتغيه من وراء حياتنا.

إن مهمتنا في هذا الملحق تتجاوز نقل الأخبار وشرح المؤشرات. إنها محاولة متواضعة لاستدعاء الروح إلى حوارنا الاقتصادي، لنتذكر معًا أن الاقتصاد، في أبسط تعريفاته، هو القصة الجماعية التي نرويها عن أنفسنا، عن قيمنا، عن أحلامنا المشتركة. ولنحرص على أن تكون هذه القصة جديرة بنا.

#الاقتصاد_الإنساني
#الروح_في_عالم_الآلة
#الفكر_الاقتصادي
#الاقتصاد_والمعنى
#الاقتصاد_الحديث
#الاقتصاد_الفلسفي
#الإنسان_والآلة
#رؤية_اقتصادية

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.