
في الزمن الذي تتقاطع فيه الثقافات وتتسارع فيه موجات التغيير، تبقى المرأة السودانية والعربية عمودَ الذاكرة الجمعية، ورافعةَ الوعي القومي، وحارسةَ الجمال الذي لا يُستعبد. إنها ليست مجرد ناقلة لتراث مضى، بل هي المعمار الخفيّ الذي شيّد هوية الأمة العربية، حجراً فوق حجر، ونغمةً بعد نغمة، حتى صارت الفنون الشعبية مرآةً لروحها، ومرثيةً لماضيها، وأناشيدَ لولادة مستقبلها. فالمرأة ليست راويةً لحكايات الجدّات فحسب، بل هي الراوية الكبرى لتاريخ الوعي، التي صاغت من الأغنية ملحمةً، ومن الرقص صلاةً، ومن النقش بياناً في الفلسفة البصرية والوجودية.
المرأة السودانية على وجه الخصوص حملت على كتفيها ذاكرة الحقول ومواسم النيل والزرع والحصاد. كانت الأغنية الشعبية التي ترددها في الصباح الباكر ليست ترفاً صوتياً، بل إيقاعَ عملٍ ومقاومةٍ ومعنى. كانت تُغني لتغرس، وتغني لتصبر، وتغني لتنتصر. في تهاليلها تهويداتٌ للطفل، وفي (الدوبيت) الذي تحفظه شيفرةٌ للكرامة والانتماء. هي التي حفظت الأمثال والحكم والقصص الشعبية، حين كانت الكلمة هي التاريخ، والذاكرة هي الأرشيف.
ومن خلال حكاياتها المسائية التي ترويها لأطفالها تحت ضوء القمر، كانت تحفظ القيم الاجتماعية والرموز الأخلاقية، وترسم للوعي الجمعي خريطةَ السير نحو الغد.
وإذا كانت الذاكرة هي الوجود، فإن المرأة هي حارسةُ هذا الوجود ضد النسيان. في رقصة (الطارق) و(الكمبلا) و(العجكو) تتجسد رؤيتها الفلسفية للعلاقة بين الجسد والكون، بين الأرض والسماء، بين الكينونة والزمن. إنها لا ترقص لتُلهي، بل لترتّل حكايةَ الأمة في لغةٍ حركيةٍ شفافة، تُعيد للأرض قدسيتها، وللجسد إنسانيته، وللجمال معناه التحرري.
وفي النقش والتطريز على الأقمشة والفخار والزينة، خطّت خرائط الروح قبل خرائط الجغرافيا، فكانت النقطةُ واللونُ والخطُّ رموزاً للخصوبة والحياة والهوية، وذاكرةً للفصول والهجرات والمواسم.
إن فلسفة الجمال عند المرأة الشعبية ليست ترفاً زخرفياً، بل فلسفةُ مقاومةٍ في وجه القبح المفروض. فهي التي أبدعت من الخامات البسيطة جمالاً مهيباً، وجعلت من التكرار طقساً لتأكيد الديمومة، ومن الألوان ترميزاً للهوية. في أزيائها، في جدائل شعرها، في وشمها القديم، في تنسيقها للمسكن، كانت تقدم فلسفةً متكاملة عن الجمال بوصفه تعبيراً عن التوازن بين الفردي والجماعي، بين الداخل والخارج، بين الإنسان والعالم.
لكن هذا الدور لم يتوقف عند حدود الجمال، بل تجاوزه إلى حدود المصير. ففي زمن العولمة، حين تتآكل الخصوصيات تحت ضغط السوق وثقافة الاستهلاك، تقف المرأة العربية – من السودان إلى المغرب، ومن العراق إلى اليمن – كآخر حصنٍ في معركة الوعي القومي. هي التي تواجه محاولات طمس الهوية بوعيٍ فطريٍّ بأن الجمال ليس زينةً، بل هوية. تقاوم بالتطريز والنقش كما يقاوم المثقف بالقلم، وتحافظ على الأغنية كما يحافظ الثائر على البندقية.
لقد لعبت المرأة العربية دوراً مركزياً في الحفاظ على التراث القومي المشترك، فهي من وحدت اللغة الشعورية بين الشعب العربي قبل أن توحّدها السياسة. في أغاني العمل في السودان، كما في أغاني (الزرعة) في مصر، و(الحداء) في الجزيرة العربية، و(العتابا) في الشام، تتردد المعاني ذاتها عن الكرامة، والجهد، والحب، والانتماء. هذه السيمفونية الجماعية التي عزفتها المرأة العربية على اختلاف لهجاتها، جعلت من الفن الشعبي رابطةَ وجدانٍ قومي، تسبق كل مشاريع الوحدة السياسية.
وإذ نقرأ اليوم في ملامح الواقع العربي بوادر نسيانٍ منظم، ندرك أن المرأة ليست فقط حارسة التراث، بل حارسة المصير. فحين تتراجع النخبة إلى أبراجها الأكاديمية، تبقى هي في الحقول والمنازل، تحفظ النغمةَ والإيقاعَ والرمز، وتورّثه بدمها قبل لسانها. وحين تُختزل إبداعاتها في منتجات سياحية أو أشكال فولكلورية، تُقاوم بصدقها وبساطتها لتعيد للفن معناه الروحي.
إن دعم المرأة في دورها هذا ليس ترفاً ثقافياً بل واجب قومي. ينبغي توثيق معارفها، وحماية حقوقها الفكرية والمادية، وفتح الأسواق أمام إبداعها الأصيل. كما يجب إدماج الفنون الشعبية في التعليم، لتصبح جزءاً من بناء الهوية الوطنية والقومية لا مجرد تذكار للماضي.
في النهاية، تبقى المرأة في السودان وفي كل أرجاء الأمة العربية، هي (ضمير التاريخ)، وذاكرة الأرض التي لا تُمحى. هي التي تحرس المعنى، وتغزل الخيط بين الماضي والمستقبل. من أغنيتها تولد الحكاية، ومن حكايتها يولد الوطن، ومن وطنها تولد الأمة العربية.
المرأة حارسة التراث ليست عنواناً شعرياً، بل وصفاً لحقيقةٍ وجوديةٍ تقول: إن الأمة التي تنسى نساءها، تنسى نفسها. وإن المرأة التي تحفظ الأغنية، تحفظ الوطن.
Leave a Reply