الفنون الشعبية السودانية – حارس الذاكرة ومـ.ـقاومة النسيان في مـ.ـعركة الوعي والمصير

صحيفة الهدف

الفنون الشعبية السودانية ليست زخرفة على هامش التاريخ، بل هي نصٌّ وجودي مكتوب بلغة الجسد واللون والإيقاع، نصٌّ يحفظ ما لم تدوّنه الكتب، ويُعيد للذاكرة معناها في زمنٍ يسعى فيه النسيان إلى أن يصبح فضيلة. فحين تتكلم الأغنية، وترقص الأقدام على إيقاع الطبول القديمة، وتنقش الأيادي جدران القرى برسومها المتوارثة، فإن السودان لا يحتفل بالماضي بل يؤكّد حقّه في البقاء، في وجه كل ما حاول – ولا يزال يحاول – محوه أو تفكيكه.
الفن الشعبي السوداني ليس مجرد متعة حسّية أو تقليد فولكلوري، بل هو أحد أعمق أشكال الوعي الجمعي التي استطاعت الصمود أمام الغـ.ـزاة والمـ.ـستعمرين والعولمة والسلعنة. فهو الذي حمل ذاكرة الإنسان السوداني حين صودرت لغته، واحـ.ـتُلت أرضه، وجرى تشـ.ـويه رموزه. في الأغاني الشعبية من (الدوبيت) إلى (الحقيبة)، تُحفظ القصص الشفاهية للهجرات، والمآثر، والمـ.ـقاومة، في صياغة شعرية كثيفة تختزل التاريخ في بيتٍ من الشعر، والحكمة في مثلٍ متوارث. وفي الرقصات الطقسية مثل (الطارق) و(الكمبلا)، تُترجم الذاكرة إلى حركة، يتحول الجسد فيها إلى وثيقة حية عن علاقة الإنسان بالطبيعة وبالمجتمع وبالروح.
هذا الفن الذي عاش في الحقول والساحات والقرى، كان أول من تصدّى لمشاريع محو الهوية. فعندما حاول الاسـ.ـتعمار فرض لغته وثقافته، ظلّت الأغنية تنبض بالعربية المحلّية، والزيّ الشعبي يحكي حكاية الأرض، والأنغام تُذكّر الإنسان بجذوره. وحين اجتاحت موجات العولمة أنماط الاستهلاك والتقليد، كان الفن الشعبي يقف كجدارٍ صامتٍ ضد التماثل الثقافي، محافظاً على خصوصيته التي لا تُستنسخ. وحتى حين حاولت السياسة تفتيت الجغرافيا والوجدان، ظلّت الفنون الشعبية جسراً يوصل بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، تُعيد عبر الإيقاع واللحن ما فشل فيه الخطاب السياسي: وحدة الوجدان قبل وحدة الحدود.
لقد تجاوز الفن الشعبي وظيفته الترفيهية ليصبح أداة وعيٍ ومقـ.ـاومة. في لحظات الثورة والاحتجاج، خرجت الأغنية الشعبية من المهرجانات إلى الشوارع، تلهـ.ـب الحشود وتعيد للناس إيمانهم بالحرية. تحولت الأهازيج القديمة إلى شعارات عصرية، وتحوّل الرقص إلى فعلٍ ثوري، كما في “الإنشيدة” التي جعلت من الجسد بياناً للمقاومة. حتى النقوش والزخارف على الجدران والملابس أصبحت رموزاً وطنية، تُعبّر عن انتماء يتجاوز الزمان والمكان.
ومع ذلك، فإن الفن الشعبي السوداني يواجه اليوم خطر الاغتراب والتشييء؛ فقد ابتعدت عنه النخب المثقفة التي انشغلت بأشكال الفن المستوردة، بينما سعت السوق إلى تحويله إلى منتج سياحي فاقد للروح، مجرد عرضٍ فولكلوري للاستهلاك الخارجي. كما يهدد غياب التوثيق ضياع موروثات شفهية كاملة، لأن كثيراً من حامليها يرحلون دون أن تُدوّن تجاربهم أو تُسجّل أصواتهم، فيموت معهم فصلٌ من الذاكرة الوطنية.
إن حماية هذا التراث ليست ترفاً ثقافياً، بل ضرورة وجودية. فالأمم التي تفقد فنّها تفقد صورتها عن نفسها. لذلك ينبغي تحويل الفنون الشعبية من إرثٍ متحفي إلى مشروع نهضوي. وهذا لا يتحقق إلا عبر إدماجها في النظام التعليمي لتصبح جزءاً من وعي الأجيال الجديدة، وإنشاء أرشيف رقمي وطني يوثّق الأغاني والرقصات والحرف والنقوش، وتشجيع الفنانين الشباب على تطويرها بلغة العصر دون المساس بجوهرها. كما يجب أن يُربط الفن المحلي بالبعدين العربي والأفريقي، ليُبرز دور السودان كجسر حضاري بين القارتين، وكصوتٍ يحمل رسالة التنوّع والوحدة في آنٍ واحد.
إن الفنون الشعبية السودانية ليست مجرد ميراث من الماضي، بل هي مرآة المستقبل، لأنها تحفظ للأمة بوصلتها في عالمٍ مضـ.ـطرب يفقد فيه الناس ذاكرتهم. إنها ليست ترفاً ثقافياً ولا زخرفة للهوية، بل هي جوهرها الحيّ. وحين تنهض الأمم من كبواتها، فإن أول ما تستعيده هو صوتها، وإيقاعها، وألوانها — تلك اللغة الأولى التي تنطق بها الروح قبل أن تصوغها الكلمات.
في عمق الفنون الشعبية السودانية ينبض الوجدان القومي العربي، لا بمعناه السياسي الضيق، بل كإيقاعٍ حضاريٍّ مشترك يُذكّر بأنّ العروبة ليست حدوداً جغرافية، بل ذاكرة وجدانية تتكلم عبر الطبول والأهازيج والرموز. فكما حفظت الأغنية السودانية روح النيل ومخزون الوجدان الإفريقي، حفظت أيضاً نغمة اللغة العربية وهي تمتزج بالحياة اليومية، لتجسّد وحدة المصير الثقافي بين ضفّتَي الوادي، وبين المشرق والمغرب. هكذا تصبح الفنون الشعبية في السودان امتداداً للمشروع القومي النهضوي — مشروعٍ يرى في الفن وسيلة للتحرّر من التبعية، وإعادة تعريف الإنسان العربي كفاعلٍ في التاريخ لا تابعٍ له. إنها تذكير بأنّ الأمة العربية، حين تغني بصوت السودان، تُعيد اكتشاف ذاتها في أصدق صورها، أمة تصنع الجمال لتقــاوم القـ.ـهر، وتحوّل المعاناة إلى نغمةٍ للكرامة، والهوية إلى لحنٍ يتجاوز الحدود نحو معنى الوجود ذاته.
الفن الشعبي السوداني بهذا المعنى هو شكل من أشكال المـ.ـقاومة الوجودية؛ مقـ.ـاومة ضد النسيان، وضد اغتراب الإنسان عن ذاته. إنه إعلانٌ صامت بأننا كنّا هنا، وما زلنا، وسنظل، مادام الإيقاع ينبض في الطبول القديمة، ومادام اللون يضيء جدران القرى، ومادام الصوت يحمل في نبرته حنين الأرض ووعدها الدائم بالحياة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.