
عبد المنعم مختار
#ملف_الهدف_الثقافي
من يراقب حال مجتمعنا اليوم لا يحتاج إلى كثير عناء ليدرك حجم التراجع في قيم التعامل والسلوك العام. فبينما تتسابق الشعوب إلى صقل فنون التواصل الراقي وإعلاء قيمة الاحترام المتبادل، ما زلنا نحن نتعثر في تفاصيل صغيرة كان الأجدر أن تكون بديهية في حياتنا اليومية.
أين نحن من عبارات بسيطة تصنع فارقًا في الوجدان: “من فضلك”، “لو سمحت”، “أعتذر”، “شكرًا جزيلًا”؟ كلمات لا تكلف شيئًا لكنها تبني جسورًا من المودة والاحترام. غياب هذه الثقافة أفرز لغةً خشنةً غليظة، ينضح حديث كثير من الناس بالجلافة، والحدة، والمفردات السوقية التي لا تليق بتاريخ السودانيين وسمعتهم.
الذوق العام ليس ترفًا، بل هو أساس الحضارة. احترام الصفوف، الالتزام بقوانين المرور، المحافظة على نظافة الشارع والمرافق العامة، كلها ممارسات لا تحتاج إلى ثروة ولا إلى معجزة سياسية، إنما تحتاج إلى وعي ومسؤولية. لكننا نرى العكس: فوضى في الشوارع، فوضى في القيادة، حتى طريقتنا في المشي والكلام تكشف حجم الفجوة بيننا وبين ما نسميه مجتمعًا متحضرًا.
ولا يقف الأمر عند حدود السلوكيات اليومية، بل يمتد إلى الثقافة والفن. فانتشار الغناء الهابط والمفردات المبتذلة في بعض الأغنيات يعكس حالة خطيرة من التراجع في الذوق والوعي. كيف نقبل أن تصبح كلمات ركيكة و”ألفاظ الـ ح.رب والجغم” زادًا يوميًا لأذن الناس؟ الفن مرآة المجتمع، وإذا كانت المرآة مكسورة، فلا غرابة أن يشوه انعكاسها صورة الناس.
وفي عصرنا الرقمي، بات “الإتيكيت” أكثر إلحاحًا في فضاء الوسائط الاجتماعية. فكم من خلافات وسوء فهم تشتعل بسبب كلمة متعجلة أو تعليق ساخر! الذوق الرفيع هنا يعني أن نحترم اختلاف الآراء دون تجريح، وأن نعبّر بأدب عن رأينا دون تهكم أو إساءة. من الذوق ألا ننشر الشائعات ولا نشارك ما يسيء للآخرين، وأن نستخدم المنصات لنشر المعرفة والجمال والتحفيز الإيجابي. فالكلمة الإلكترونية سلاح ذو حدين، وميزان الرقي في هذا الفضاء هو ما نكتبه لا ما ندّعيه.
ما أحوجنا اليوم إلى ثورة في فن التعامل، ثورة معرفية تعيد الاعتبار إلى “الإتيكيت” لا بوصفه تقليدًا غربيًا، بل باعتباره قيمًا إنسانية أصيلة موجودة في تراثنا السوداني: الكلمة الطيبة، الحياء، إكرام الضيف، حسن الجوار، توقير الكبير والرحمة بالصغير. هي قيم لا تموت لكنها تذبل إن لم تُسقَ بالوعي والممارسة.
لقد آن الأوان أن نعترف بمشكلتنا، لا لجلد الذات، وإنما لبناء الذات. إصلاح المجتمع يبدأ من تفاصيل صغيرة: من كلمة طيبة، من ابتسامة صادقة، من احترام وقت الآخر وحقه. وحين نتقن هذه التفاصيل، نصنع الفرق الكبير. ففن الإتيكيت ليس زينة إضافية لحياتنا، بل هو جواز عبورنا إلى مستقبل أرقى يليق بتاريخنا وتطلعاتنا.
#عبدالمنعم_مختار #فن_الإتيكيت #الذوق_العام #أخلاق_المجتمع #السودان_والحضارة #ثقافة_التواصل #الذوق_الرقمي
Leave a Reply