السودان.. المنزلة بين المنزلتين

صحيفة الهدف

د. أحمد الليثي

#ملف_الهدف_الثقافي

منذ الاستقلال، ظلّ السودان يتأرجح بين الحلم والواقع، بين وعود الثورات وكوابيس الانقلابات، بين آمال المدينة الفاضلة ومآسي الخراب.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يقبع السودان في المنزلة بين المنزلتين: لا هو ثورة مكتملة تؤسس لدولة جديدة، ولا هو دولة مستقرة تطوي جراحها. إنها حالة برزخية، فضاء معلّق بين اليوتوبيا والديستوبيا؛ لا يكتمل ولا يُمحى، بل يظل مفتوحًا على الاحتمال.

اليوتوبيا السودانية: حلم لم يكتمل

في شعارات ديسمبر “حرية، سلام، وعدالة” وفي أغنيات مصطفى سيد أحمد وأبو عركي البخيت، وفي دماء الشهداء أمام القيادة العامة، تجلّت يوتوبيا سودانية خاصة: وطن يتساوى فيه الناس، تُحترم فيه الكرامة، وتُعاد صياغة الدولة باعتبارها خادمة للمجتمع لا سجّانة له. هذه اليوتوبيا لم تكن سرابًا، بل كانت ومضة حقيقية؛ لكنها ومضة لم تتحول إلى نهار كامل.

الديستوبيا السودانية: الكابوس القائم

مع الـ ح.رب الأخيرة، دخل السودان قلب الديستوبيا: مدن مدمرة، نزوح جماعي، مجاعة تتسع، وانهيار مؤسسات الدولة. صارت البلاد كصفحات من روايات أورويل أو كوابيس زامياتن، حيث تتحوّل السلطة إلى وحش، والمدينة إلى أنقاض، والمواطن إلى رقم في تقرير إنساني.

المنزلة بين المنزلتين: برزخ السياسة والوجود

السياسة عندنا صارت جدلية الهوية والثانوية: نخب ليست أصلًا في التغيير ولا بديلًا عنه، تتأرجح بين المعارضة والسلطة، بين شعارات الثورة ومساومات البقاء. إنهم كمرتكب الكبيرة عند واصل بن عطاء: لا مؤمنون حقًا، ولا كافرون تمامًا، بل عالقون في منزلة تكشف عجزهم وقلة حيلتهم. والـ ح.رب نفسها تسكن هذا البرزخ: لا هي نصر يُعلن، ولا هزيمة تُنهي، بل جرحٌ مفتوح يعلّق البلاد في زمن بلا نهاية، يستهلكها على عتبة سلام لا يأتي وموت لا يكتمل.

حتى المواطن السوداني صار صورة لهذه الفلسفة: قلبه مشدود بين اليأس والأمل، بين الخراب الذي يراه بعينيه والحلم الذي يرفض أن يموت بداخله. يعيش كل يوم كمن يُعلّق بين نورٍ يتشكل وظلمة تتسع لتبتلعه.

إمكان الأمل: اليوتوبيا الممكنة

اليوتوبيا ليست جنة مؤجلة، بل هي مقاومة للديستوبيا. كل فعل صغير للنجاة، كل تضامن بين الجائعين، كل كلمة تُكتب ضد الخراب، هي محاولة لانتشال المعنى من قلب الكابوس. وربما، من هذا الرماد، يمكن أن تتشكل يوتوبيا سودانية جديدة، لا كحلم بعيد، بل كخطة نجاة يومية تحفظ للإنسان اسمه وكرامته.

خاتمة: سؤال واصل من جديد

هكذا يغدو السودان نصًا حديثًا على سؤال واصل القديم: “هل نحن مؤمنون حقًا بالثورة؟ أم كافرون بها”؟

والجواب المرير: إننا عالقون في المنزلة بين المنزلتين.. حيث يتحول المؤقت إلى قدرٍ أبدي، فلا نصل إلى ثورة تكتمل، ولا إلى دولة تستقر.

 

#ملف_الهدف_الثقافي #السودان_بين_المنزلتين #أحمد_الليثي #اليوتوبيا_والديستوبيا #البرزخ_السياسي #الثورة_السودانية #الوعي_والـ ح.رب

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.