الأحواز واسـ.ـتعمار الزمن – محاولة اغـ.ـتيال الماضي العربي وإلغاء المستقبل(2)

صحيفة الهدف

أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

تمهيد: ليست مـ. ـعركة الأحواز مع الاحـ.ـتلال الإيراني مجرد نـ. ـزاع على الأرض أو الثروة، إنها مـ.ـعركة على الزمن نفسه. فالمـ.ـستعمر حين يعجز عن قـ.ـتل الجسد، يحاول قـ.ـتل الذاكرة، وحين يخشى المستقبل، يسعى لاحـ.ـتلال الماضي. وهكذا تحوّل الاحـ.ـتلال الإيراني للأحواز العربية، منذ عام 1925، إلى مشروعٍ منهجيّ لإعادة كتابة التاريخ، وتفريغ الحاضر من المعنى، وحرمان المستقبل من الأمل. في هذا المعنى، لا تُختزل القضية الأحوازية في كونها قضية سياسية أو اقتصادية، بل هي معـ.ـركة وجودية بين من يريد أن يعيش زمنه، ومن يُفرض عليه أن يعيش في زمن الآخرين.

أولًا: استـ.ـعمار الذاكرة – قـ.ـتل الماضي لإلغاء الهوية: تبدأ السيطرة الحقيقية على أي شعب من السيطرة على ذاكرته. فمن يملك سرد التاريخ، يملك تعريف الحاضر وتحديد من يحق له أن يكون جزءًا من المستقبل.

في الأحواز، عملت إيران الشـ.ـعوبية، منذ لحظة الاحـ.ـتلال، على تنفيذ ما يمكن تسميته بـ(هندسة النسيان):

1. طمس اللغة العربية: حُظر التعليم بالعربية في المدارس، ومُنعت اللافتات العربية في الشوارع، وأُجبرت الأسر على تسجيل مواليدها بأسماء فارسية. وبذلك انتقلت الهيمنة من الجغرافيا إلى اللسان، ومن الأرض إلى الذاكرة.

2. تبديل الرموز والمكان: أُعيدت تسمية المدن والقرى العربية: فالأحواز أصبحت (خوزستان)، والمحمّرة (خرمشهر)، وعبادان (آبادان). هذا ليس مجرد تغيير أسماء، بل هو محو دلالي يهدف إلى طرد الوجود العربي من النصّ المكاني ذاته.

3. إعادة صياغة التاريخ الرسمي: تُدرّس المناهج الإيرانية أن الأحواز العربية جزء (أصيل) من الإمبراطورية الفارسية، وأن العرب (هاجروا إليها) مؤخرًا. وهكذا يتحول المـ.ـحتل إلى (صاحب أرض)، وتتحول الضـ.ـحية إلى (وافد غريب).

إنها سياسة إعادة كتابة الذاكرة الجماعية حتى يصبح الماضي العربي للأحواز مجرد (ذكرى غير شرعية).

ثانيًا: استعمار الحاضر:(تحويل الإنسان إلى ظلٍّ في وطنه) الاحـ.ـتلال الزمني لا يتجلى فقط في الماضي، بل يمتد إلى الحاضر. فالمواطن العربي الأحوازي يعيش اليوم تحت منظومة اغتراب مزدوج: فهو محروم من موارده، وممنوع من هويته. تُدار ثروات النفط والغاز – التي تشكل أكثر من 95% من إنتاج إيران – من قبل شركات حكومية مركزية، بينما يعيش سكان الأحواز في فقرٍ مدقع، بلا مياه صالحة ولا خدمات أساسية. إنها مفارقة الوجود العربي في أقسى صورها: أرض غنية وشعب فقير، وطنٌ مثقل بالثروات، ومواطن محروم حتى من لغته.

ومع أن النهب الاقتصادي يهدف إلى إضعاف القدرة المادية على المـ.ـقاومة، فإن الهدف الأعمق هو كـ.ـسر الإرادة الحضارية. حين يُجبر الإنسان على العيش في الحاضر فقط، بلا ماضٍ يفتخر به، ولا مستقبلٍ يحلم به، فإنه يتحول إلى كائنٍ (زمني بلا ذاكرة) — وهو ما يسعى إليه المستعمر دائمًا.

ثالثًا: محاولة اغتيال المستقبل :(بناء جدارٍ ضد الحلم العربي): الاحتلال الإيراني لا يخاف من الأحوازيين اليوم، بل من أبنائهم غدًا. لذلك يُستهدف المستقبل عبر ثلاثة مسارات متوازية:

1. سياسات التجهيل الممنهج: المدارس في الأحواز تعاني من نقصٍ حاد في التمويل والمعلمين، ويُمنع تدريس التاريخ العربي المحلي. التعليم هنا لا يبني الإنسان، بل يفصله عن تاريخه.

2. التحكم في الاقتصاد المحلي: المشاريع التنموية تُمنح لمستثمرين فارسيين من خارج الإقليم، بينما يُقصى الشباب العرب من الوظائف. إنها سياسة (الحرمان المسبق من المستقبل)، أي منع الجيل الجديد من امتلاك أدوات النهوض.

3. التهجير والتغيير الديموغرافي: نقل سكان فارس إلى الإقليم مقابل تهجير قسري للأسر العربية نحو الداخل الإيراني. الهدف ليس فقط تغيير التركيبة السكانية، بل تفكيك الذاكرة المكانية نفسها – أن تصبح الأرض غريبة عن أهلها، والبيت بلا أبنائه.

رابعًا: المـ.ـقاومة الوجودية 🙁 حين يصبح الوعي سلاحًا): لكن التاريخ لا يُمحى بسهولة، والذاكرة لا تُقتل إلا إذا استسلمت. منذ قرنٍ كامل، والأحوازيون يخوضون مقاومة مزدوج،  مـ.ـقاومة بالسـ.ـلاح ضد الاحـ.ـتلال، ومـ.ـقاومة بالوعي ضد النسيان. في القصائد الشفوية، في الأغاني الشعبية، في مجالس القرى، في التعليم السري، تتجسد الروح العربية الأحوازية التي تُصر على أن تقول: (نحن هنا).

هذه المـ.ـقاومة ليست سياسية فقط، بل فلسفية- إنها مـ.ـقاومة ضد (العدم)، ضد تحويل الإنسان إلى كائنٍ بلا هوية.

فكما قال أحد مفكري الأحواز: (أن تتكلم بالعربية في شارعٍ فارسي، هو عمل مـ.ـقاومة).

خامسًا: البعد الفلسفي: (من اسـ.ـتعمار الأرض إلى استعمار الزمن): ما يميز الاحـ.ـتلال الإيراني للأحواز أنه تجاوز المفهوم الكلاسيكي للاسـ.ـتعمار. فهو لا يحـ.ـتل الأرض فحسب، بل يحـ.ـتل الزمن العربي ذاته.

يحاول أن يجعل الماضي خطيئة، والحاضر نسيانًا، والمستقبل ملكًا له وحده.

وهكذا تتحول القضية الأحوازية إلى سؤال وجودي للأمة العربية بأكملها، هل ما زال للعرب زمنهم الخاص؟ أم أنهم يعيشون داخل أزمنة الآخرين؟

الجواب يبدأ من الأحواز، لأن من يستعيد ذاكرته يستعيد مصيره.

فاستعادة الزمن هي الشرط الأول لاستعادة الإنسان.

الخاتمة: الأحواز ليست فقط أرضًا محـ.ـتلة، بل زمنٌ مخـ.ـتطَف. وإذا كان الاحـ.ـتلال قد نجح في تفـ.ـكيك الجغرافيا؛ فلن ينجح في تفكيك الوعي. فالوعي العربي حين يستيقظ، يعيد وصل الحلقات المنقطعة بين الماضي والمستقبل، بين الذاكرة والأمل. إن تحرير الأحواز هو تحرير للزمن العربي كله من الاستلاب، وتأكيد أن التاريخ لا يُكتب بالقوة، بل بالإرادة.

وإذا كانت طهران قد استطاعت أن تحـ.ـتل الأرض منذ قرن، فإن العرب قادرون اليوم على استعادة الزمن، لأن الزمن في جوهره هو فعل وعي، والوعي هو أول أشكال المـ.ـقاومة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.