يا ملحد؟!

صحيفة الهدف

علي الترياق

ملف_الهدف_الثقافي

كاتب وسياسي يمني

في طفولتي كنت لا أحب الظلام، أو بالأصح لا أحب الليل. ما إن أرى الشمس تجمع أشعتها البرتقالية الغامقة في حقيبتها وتبدأ بالغرق خلف الجبال، مخلفة ورائها الشفق الملون، حتى يكفهر العالم في داخلي. أشعر بالخوف، ليس لأنني أخاف الظلام، ولكن لأن الجميع سينام؛ فكان عزائي أن أذهب إلى البيت مع أمي ونتسامر، وحين تجهز أمي فراشي أشعر كأنها تجهز لي تابوتي دفني من الهلع.

“لا يا أمي، لا زال الوقت مبكرًا” مع أني أكذب، فالوقت قد تجاوز نصف الليل. فتقول أمي: “سأنام وأنت اجلس في فراشك حتى تنام”.

هذا ما كنت أمانع أن يحدث منذ المساء: أن ينام الجميع. هي هذه اللحظة السوداء القاتمة، أن أجلس لوحدي والناس كلها نائمة. لم أكن أخاف الخرافات والوحوش والجن والعفاريت، لا؛ لا كنت أخاف من الأفكار التي كانت بالنسبة لي مرعبة. أفكر في أشياء أكبر من حجمي، أغوص في بحر هائج. حين أفكر في تلك الأشياء كأني ألقي بنفسي في متاهة معقدة متشعبة، الأغوار مبهمة الملامح مجهولة من كل الجهات، كسفينة لم تجد لها مرفأ.

كنت أحب الضجيج وصخب النهار لأني أهرب من تلك الأفكار إلى الأصدقاء والرفاق: الركض في كل مكان، لا أتوقف عن الركض والهروب. أصرخ بصوتي في كل الأزقة والشعاب والأودية لعلي أزعج تلك الأفكار فترحل أو تموت فأستريح منها. لأني في أحد الصباحات الشتوية الجميلة سألت أحد المسنين وهو ينتظر الشمس، مستندًا إلى عصا قديمة يبدو أنها إرث من أحد أجداده العظماء. يحتضن العصا ويجلس على صخرة، ينظر باتجاه الشمس التي تلوح خلف الجبال البعيدة. في ذلك الصباح تبدو الجبال المدببة كالخناجر اللامعة، عندما تكون الشمس خلفها تتوهج.

كان يدخن السيجارة وينفث الدخان من فمه وأنفه بشكل رهيب. سألته عما أفكر فيه، كاد أن يبطش بي بعكازته، كاد يأكلني من الغضب والحنق؛ لم يبق إلا السب والصفعة التي كنت أنتظرها في تلك اللحظات المظلمة.

قال لي: “أيها الملحد”. لم أعرف معنى تلك الكلمة حينها.

قال: “تريد أن تكفر؟” لكن هذه الكلمة حين نُعتُ بها شيء ما اشتعل في أحشائي. جلست مع نفسي: أنا كافر؟ لا مستحيل. أنا أصلي وأحب الله والرسول والمسلمين، وأقتدي بالرسول، وأحب قصص الصحابة. كيف يمكن أن أكون كافرًا؟

مرت طوال تلك الفترة وأنا منهك نفسيًا، عيوني غائرة وتحيط بها هالة من السواد والأرق. الكل يسألني: “ماذا بك؟ هل أنت مريض؟” لكني لست مريضًا.

ذات يوم، وأنا أمشط شعري أمام المرآة أتأمل ملامح وجهي الشاحب كأني جثة مؤجلة لم تُدفَن بعد، بينما أتجهز لأذهب إلى المسجد لصلاة الجمعة، سمعت صوتًا رخيمًا على منبر المسجد: حمد الله وسبحانه، وصلى على النبي، ثم بدأ في الدخول في الذات الإلهية وصفات الله عز وجل. فنطلقت مسرعًا واتخذت لي مكانًا قصيًّا أنصت إليه. كان شيخًا تحيط به هالة من نور، يلبس ثيابًا بيضاء وعمامة بيضاء. شيء ما يتفتح بداخلي لما يقول، كمن وجد ضالته بعد عناء؛ تتفتح الشفرات التي كانت غامضة بالنسبة لي.

شرح بالأحاديث والقصص والأدلة عن الله وذاته وصفاته، التي لا تنحصر في كتاب وتحير فيها العقول والأفهام. فنفرجت غمتي واسترحت تفكيري الصغير.

إنه العلم الذي ينتشل الجميع إلى النور.

ذلك العجوز حين زجرني عن السؤال لم يكن زجره نابعًا عن تقديس لله سبحانه وتعالى، بل كان لجهله وعدم معرفته بما يجيب. لكن الشيخ الجليل عرف الله بالعلم والإيمان؛ لذلك لم يزجر ولم يسبّ ولم يغضب، فقط أخبر بالحقائق التي تتجلى في كل مكان

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.