
مؤيد الأمين
#ملف_الهدف_الثقافي
المقدمة:
منذ استقلال السودان، كان للفنون والثقافة دور جوهري في تشكيل الوعي الوطني وتعزيز قيم الحرية والسلام. فقد كانت الأغنية والمسرح واللوحة التشكيلية أدوات للمقاومة ووسائل لتثقيف المجتمع وحشد طاقاته في مواجهة الاستعمار والديكتاتوريات. غير أنّ وصول الإخوان المسلمين (الكيزان) إلى الحكم بانقلاب 30 يونيو 1989 شكّل نقطة تحوّل مأساوية، إذ شرعوا في تنفيذ مشروعهم الذي استهدف إعادة صياغة المجتمع السوداني على أسس أيديولوجية مغلقة. ولأنهم أدركوا أنّ الفنون هي أقوى أدوات الوعي، فقد وضعوها في قائمة أعدائهم الأوائل.
أولًا: إغلاق المؤسسات الفنية والتعليمية
من أولى قراراتهم عقب الانقلاب إغلاق المعهد العالي للموسيقى والمسرح، أحد أبرز الصروح الأكاديمية في السودان. كان المعهد مركزًا لإنتاج المعرفة الفنية، وخرّج أجيالًا من المبدعين الذين ملأوا الساحة الغنائية والمسرحية بأعمال خالدة.
– بإغلاقه، توقفت حركة البحث والتجريب الفني.
– هاجر العديد من الطلاب والأساتذة بحثًا عن فضاء حر للإبداع.
– تعطلت مشاريع مسرحية وموسيقية كان لها أثر اجتماعي كبير.
– هذا القرار كان إعلانًا واضحًا أن الكيزان يخوضون حربًا شاملة ضد الثقافة.
ثانيًا: استهداف الفنانين والمبدعين
لم يكتفِ النظام بضرب المؤسسات، بل لاحق الأفراد أيضًا:
– تم اعتقال عدد من الفنانين والشعراء لمجرّد أنّ أعمالهم حملت رسائل سياسية أو وطنية.
– مُنع كثير من الفنانين من الظهور في الإذاعة والتلفزيون، وحُجبت أغانيهم من البث.
– اضطر آخرون للهجرة، ليفقد السودان طاقاته الإبداعية.
كان الهدف تحييد أي صوت قادر على مخاطبة ضمير الشعب.
ثالثًا: استبدال الغناء بالمدائح والأناشيد
شرع الكيزان في تجفيف منابع الأغنية الوطنية واستبدالها بالإنشاد الديني:
– دعموا فرق المديح التي ارتبطت بخطاب الطاعة والانقياد.
– ضخّوا أموالًا في إنتاج أناشيد تمجّد (المشروع الحضاري) وتؤلّه السلطة.
– تم حظر البث التلفزيوني والإذاعي للأغاني التي تذكّر بتاريخ المقاومة أو تعبّر عن معاناة الشعب.
كانوا يسعون لإنتاج وجدان جمعي جديد خالٍ من قيم الثورة والحرية.
رابعًا: تشجيع الكوميديا المبتذلة
في مقابل محاربة الفن الراقي، شجع النظام الكوميديا التافهة:
– ظهرت فرق تقدم نكات سطحية تخاطب الغرائز وتُشغل الناس عن قضاياهم.
– كثير من هذه النكات غذّت العصبية القبلية، مما زاد من الانقسام الاجتماعي.
– تم إغراق الإعلام بإنتاجات هزلية تافهة بدلًا من المسرح الهادف.
بهذا تم تحويل الفن إلى أداة لإشاعة التفاهة والسطحية بدلًا من نشر الوعي.
خامسًا: سيطرة الكيزان على الإعلام المرئي والمسموع
استغل الإسلاميون احتكار الدولة للإعلام في تنفيذ مشروعهم:
– حوّلوا التلفزيون القومي إلى منبر دعائي يروّج لشعاراتهم.
– مُنعت الأعمال الدرامية والموسيقية التي لا تتماشى مع خطابهم.
– أُغلق الباب أمام الصحفيين المستقلين، وتمّت مصادرة الصحف التي تحاول تغطية النشاط الفني بحرية.
– حتى البرامج الإذاعية القديمة التي عرّفت السودانيين بالفنون، تم استبدالها ببرامج وعظية وإنشادية.
بهذا أصبح الإعلام الرسمي أداة لمحو الذاكرة الثقافية.
سادسًا: حرق الكتب والأفلام والإرث الفني
أحد أكثر أوجه التدمير قسوة كان تصفية الأرشيف الثقافي:
– جرى إعدام مكتبات كاملة في الجامعات والمعاهد بحجة أنها “تروّج للفكر الغربي”.
– تم حرق وتدمير عدد من الأفلام السودانية القديمة المخزنة في التلفزيون، وهي التي كانت توثّق لتاريخ السودان الفني والاجتماعي.
– صودرت لوحات تشكيلية ومجسمات بدعوى أنها مخالفة للشريعة.
بهذا أضاعوا على الأجيال كنزًا لا يُقدّر بثمن من التراث الفني.
سابعًا: أحداث كلية الفنون الجميلة
من أبرز الشواهد على عداء الكيزان للفن ما جرى في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان:
– هاجم طلاب الحركة الإسلامية الكلية، وقاموا بتكسير المجسمات والتماثيل واللوحات، بدعوى أنّ الرسم والنحت “حرام”.
– رددوا أنّ هذه الأعمال تذكّر بـ “عبادة الأصنام”، وهو خطاب يُظهر عمق جهلهم بطبيعة الفن ودوره الحضاري.
– كان الهدف ترهيب الطلاب والأساتذة، ودفعهم للتخلي عن تخصصاتهم.
هذا الحدث لم يكن مجرد مشاجرة طلابية، بل كان رسالة سياسية واضحة مفادها أن مشروعهم لا مكان فيه للإبداع التشكيلي.
ثامنًا: الأثر الاجتماعي لهذه السياسات
نتج عن هذه السياسات التخريبية آثار بعيدة المدى:
– تشويه الذائقة العامة، إذ نشأت أجيال على الأناشيد والبرامج الوعظية بدل الفن الحقيقي.
– إفقار المخزون الثقافي الوطني بعد تدمير الأرشيف وحرق الكتب والأفلام.
– تكريس العصبية القبلية عبر الكوميديا المبتذلة والخطاب الإعلامي الموجّه.
– تغريب المجتمع عن تاريخه الفني، مما خلق فراغًا ثقافيًا خطيرًا.
تاسعًا: المقاومة الثقافية والفنية
رغم القمع، لم تنطفئ جذوة الفن:
– واصل شعراء ومغنون من المنافي إنتاج أعمالهم التي ألهمت الشارع السوداني.
– تسربت الأغاني والمسرحيات عبر أشرطة كاسيت ثم عبر الإنترنت، لتصل إلى الناس بعيدًا عن رقابة النظام.
– ظهرت مبادرات شبابية لإحياء المسرح والغناء في الأحياء الشعبية، متحديةً سلطة القمع.
هذه المقاومة أثبتت أن الثقافة لا تُهزم بسهولة.
عاشرًا: الفن كعدو للاستبداد
يخشى الطغاة الفنون لأنها تخاطب الروح والخيال، وهي قادرة على تحريك الجماهير بطرق لا تستطيع السياسة أن تحققها. لذلك كان الكيزان يرون في الفن تهديدًا مباشرًا لمشروعهم، فسعوا إلى تدميره منذ اللحظة الأولى.
الخاتمة:
لقد مارس الإخوان المسلمون في السودان جريمة حضارية مكتملة الأركان:
– أغلقوا المؤسسات التعليمية الفنية.
– قمعوا الفنانين وشوّهوا المشهد الغنائي والمسرحي.
– أحرقوا الكتب والأفلام، ودمروا الأرشيف الثقافي.
– سيطروا على الإعلام وحوّلوه إلى أداة دعاية.
– اعتدوا على كلية الفنون الجميلة، وأرهبوا المبدعين بحجة أنّ الفن كفر وضلال.
لكن، ورغم كل ذلك، صمدت الفنون والثقافة السودانية، لتظل شاهدة على أنّ الوعي أقوى من القمع، وأنّ الإبداع لا يمكن أن يُمحى بقرارات أو هجمات متعصبة. وسيظل الشعب السوداني قادرًا على إعادة بناء ذاكرته الثقافية مهما حاول الطغاة محوها.
Leave a Reply