
أمجد السيد
#ملف_الهدف_الثقافي
من بين الأعمال الغنائية الخالدة في وجدان المستمع السوداني، تظل أغنية “أقدار” للشاعر الكبير الصادق إلياس وأداء الصوت الأصيل مجذوب أونسة، واحدة من تلك النصوص التي لا يبهت بريقها مهما تعاقبت السنين. فهي ليست مجرد لحن عابر، بل رحلة وجدانية تمزج بين الحب والحكمة والفلسفة، وتُقدّم درساً في كيفية مواجهة الانكسارات الإنسانية.
اختار الصادق إلياس في “أقدار” لغة عاطفية صافية، لا تكتفي بوصف الجرح الشخصي، بل تفتح الباب أمام تأملات أوسع في الزمن وتقلباته. فمنذ المطلع، يضعنا النص أمام خيبة إنسانية كبرى، حيث يتحوّل الحب من وعد بالخلود إلى تجربة ينهشها الفقد، لكن دون أن يفقد الشاعر صفاءه أو إنسانيته.
المحور الأبرز في الأغنية هو الزمن كقوة قاهرة، يتدخل في مصائر العشاق. هنا لا يوجه الشاعر اللوم إلى الحبيب، بل إلى الأقدار التي تسلبه ما هو جميل. هذه الرؤية الفلسفية تعكس عمق التجربة الإنسانية عند إلياس، الذي صاغ الألم في صورة شعرية راقية بعيدة عن الابتذال.
واحدة من أجمل صور النص تكمن في نبل الموقف، فالقصيدة ترفض الانغماس في الغضب أو الشكوى، وتفتح باب التسامح الصادق، في إشارة إلى أن الحب الحقيقي يسمو حتى في لحظة الانكسار.
جاء أداء مجذوب أونسة محملاً بكل ما يلزم من صدق وشجن. صوته، بعمقه الدافئ، أعطى للكلمات حياة أخرى، واللحن البسيط الهادئ جعل المستمع يعيش حالة من التأمل الحزين لا الانكسار الصاخب. فالأغنية لم تُغنَّ لتُبكي فقط، بل لتُعلِّم كيف يمكن مواجهة قسوة الزمن برضا وحكمة.
أقدار يا نور عينيّ
أنا كنت فاكرك ليّ
ما كنت متصور
يوم أجيك مغلوب
شايل جرح دنياي
من زول أكان محبوب
الدنيا ياما توري
والدهر ياما يقري
لمن تفوت إنت
حبيبي يا إنت
في الدنيا بس شن ليّ؟
أنا كنت فاكرك لي
ناسي الزمن وأحكامو
هم البريد في يوم
ما بدور يشوف قدامو
تاريهو الزمن بيفرقني
منك بعيد يحرمني
يظلم سنينا السمحة
تنسى العذاب البِي
صبر السنين الكان
حاضننو في الأعماق
كم بغرو منو الناس
بقى للعزول حراق
أكان خلاص مليتو
قلبي الحنين خليتو
مجبور أسامحك أنا
وأمسح دموع عينيّ
أنا ما بلومك إنت
ما بعاتبك إنت
مهما الدموع تتحدر
تغلبني
“أقدار” ليست أغنية عن حب انتهى، بل نصٌّ عن فلسفة الفقد الإنساني، عن قدرة الشاعر والمطرب معاً على تحويل الألم الشخصي إلى تجربة جماعية يتشاركها كل من مرّ بخيبة أو فراق. لهذا بقيت الأغنية خالدة، تُستعاد مع كل جيل لأنها تعبّر عن الجرح المشترك والكرامة العاطفية في آن واحد.
بكلمات الصادق إلياس وصوت مجذوب أونسة، تحوّلت “أقدار” إلى أكثر من عمل غنائي؛ إنها سيرة وجدانية مفتوحة، تسكن وجدان المستمع السوداني وتمنحه عزاءً جمالياً في مواجهة قسوة الأقدار.
Leave a Reply