
#ملف_الهدف_الثقافي
من الصعب أن نحدد متى عرفنا أدمون منير؛ كأنه أخوك، أو جاركم، أو خالك. ضباب زمن معرفته يشبه معرفة أفراد أسرتك: لا تاريخ لها، كأنه كان معك قبل ميلادك، بل منذ الأبد.
هذا الإحساس صنع حميمية بيننا كأطفال، نراقب بدهشة بساطة عبقريته على صفحة الشاشة، وهو يرسم فوق طفولتنا بيتًا من الشعر. أكاد أرى نفسي الآن طفلًا يراقب بدهشة سرعة رسمه وخياله اللطيف الدسم، وقد طالت الأنوف، وصارت الأسنان كسورَ سجنٍ عالٍ داخل الفم. كنا نضحك من أعماقنا؛ أطفالًا حكماء تضحكهم أبسط الأشياء، في زهدٍ صوفي يتجلّى في شاشة بيضاء وسوداء، كزهد الصلحي في أواخر أعماله، حيث يكفي قلم رصاص واحد، فالزيادة كالنقصان. كنا نصبح كالحلاج: وأي أرضٍ تخلو منك حتى تعالوا ينظرونك في السماء؟
كان نطق اسمه حلوًا جميلًا: أدمون. كأنه هو من اختاره. كان الاسم يفوح بطَعم السودان في السبعينيات، موطن طفولتنا، قبل أن ينخر السوس شجرة الحب والتسامح الاجتماعي، وقبل أن يُغتال الإعجاب بتنوع نبض ثقافة الوطن. حينها كانت الفتيات يشبهن الوطن: عربيدات، عنيدات، صوفيات؛ قبل أن يخيّم ظلام الشك والارتياب والتخوين والتكفير والتلصص، ويغتال حياة كاملة اندثرت تمامًا، حتى عجزت عنها معاول الحفريات في جبّ الماضي.
بارك الله في فضيلة التذكّر، وفي جهد جاد الله جبارة وفيلمه الخرطوم 75. فيلمٌ شكّك فيه بعض الشباب، رغم أنه وثائقي بحت. هكذا كانت الخرطوم؟ أنيقة، حرة، لبيسة، وذات مذاق خاص.
رحم الله أدمون منير، ورحم الله حقبة قُتلت بلا ذنب، سوى أنها كانت جميلة.. من أعداء القبح وأنصار الجمال
Leave a Reply