
محمد المرتضى حامد
#ملف_الهدف_الثقافي
عبد العزيز السمح المبارك..
ووحياة الشجن وأغلى الذكريات..
يروى أنه في إحدى محاكم عجايبستان أمر القاضي شاهدًا أن يضع يده على المصحف ليقسم بواقعة محددة، فاعترض المتهم قائلًا: لا لا لا يا مولانا، قول ليهو يرفع إيدو فوق ويحلف بسيدي فلان، فامتنع الشاهد و ازوَرَ خشية أن يمسخه سيدو فلان، وطبعًا المسأله قناعات وإيمانيات، فصاحبنا تبنى صدقه ومعتقده وضميره خلافًا لمن تعرفونهم جيدًا، الذين يقسمون صباح مساء وكأنهم يضعون أكفهم على رواية (بين القصرين).
بالله مش اتكيفتوا حد الهِزة، ومعكم تشارلز ريختر زاتو لأحمد المصطفى وهو يردد مع الجاغريو:
أُقسم بوجناتك؟
أنا ماببادل بيك مهما تكون هازل،
ظل ذلك القسم مقدسًا ومقبولًا كبينة حاسمة أمام محاكم الغرام وقضاة العشق. لكن هل أتاكم حديث القَسًم بالشجن وأغلى الذكريات؟
الشجن ياخ.. لما تحِن..
مما يُسعد ويبعث على محبة المقيم فينا أبدًا، المهذب عبد العزيز المبارك، أنه عندما أسمعنا شدوِه للمرة الأولى أطربنا حد الإسكار، فقد استهل تراتيله بأغنية لم نسمعها من قبل، حقتو براهو لا شريك له، فذلك الشاهق لم يردد أغنيات غيره إلا بعدما قبقب قلوبنا وتوهط في الخاطر بروائعه السماوية، ففي فترة وجيزة قدم أغانٍ عدة فائقة الوسامة، وشاد صومعة من الحُسن ظللنا نقتات عليها في زمن التحاريق والجفاف والجفاء وغربة الشتات والوحشة والتشظي، صومعة زاد مكّنته من أداء حفلات مبهجة مُسعِدة، وبحقه الخالص دون تكرار أو توجس من عواقب الملكية الفكرية، وهذا أمر حاسم للمطربين ليبقوا على تواصل مع معجبيهم، فبذكائه قرأ الخارطة النفسية لمجتمع العاصمة وحدد إحداثيات القلوب وضَبَط إيقاع الوجيب فكانت إلى مذهلة (بتقولي لا) و(طريق الشوق) وغيرها من النيازك والشهب التي شقت سماوات المدن قبل غزوة التتار أعداء الجمال.
من الطُرف المحكية عن إنتاج المطربين أن أحد المغنين المستجدين، وكان يحفظ أربع أغنيات فقط لايعرف غيرها يرددها أينما ذهب، وتصادف أن دُعي للمشاركة في حفل بالمسرح وكان يجلس إلى جواره المطرب والعملاق المخضرم (م) فدار بينهما الحوار التالي:
– إنت يا إبني بتغني؟
– أيوا يا (حاج).
مشارك معانا الليلة؟
– نعم يا (حاج)،
– يعني حفظت ليك ١٠٠ غنيه؟
– يا (حاج) هو غنا ولا رص طوب!
فأسرَّها (م) في نفسه، وعندما جاء دوره قام بأداء الأغنيات الأربعة وعاد إلى مقعده جوار المستجد الذي أسقط في يده، فقال للعملاق ممتعضًا: ليه عملت كدا يا (حاج)؟ هسه أنا أغني شنو؟ فأجابه (م) دون أن يلتفت إليه: قلنا نعلمكم رص الطوب وكدا..
بعدين شنو شابكني (يا حاج يا حاج) نحن في مسرح ولا مزدلفه!
لحظت أن جُل مجايلي عبد العزيز بلغوا أسماعنا بـ(حُر أغانيهم)، ومنهم الرائعين خوجلي وأونسه وسلّام وأبو عبيده حسن، ففي أول حفل شهدته للعزيز، تغنى بأغانٍ كانت جميعها تنافس بعضها بعضًا جمالًا كبنات تلك الأيام، وأذكر أنه استهلها بـ(ما كنت عارف) التي أدخل بموجبها المستمعين، على اختلاف فئاتهم العمرية، في محنة حقيقية بشكواه أن (السنين ضاعت وا حسرتي) حتى تردد أهل الهوى في المضي قدمًا نحو المؤسسة الموعودة إياها، وأما من دخلوها فقد عرفوا حكاية (وا ضيعتي)، وحتى لا تذهب بكم الظنون بعيدًا فقد كان يقصد (ضيعة تشرين)، من ثم أرسل إنذارًا للممسوسين ولكل من سولت له نفسه الإنبهار، لا سيما حين أردف (لا الطيبه أجدت لا دمعتي)، فالفنان مصلح اجتماعي يقوم بالإنذار المبكر رغم التحريض.
عبد العزيز في أدائه الفذ كان محضِّرا للأرواح الهائمة، فما أن فرغ ليلتها من حسراته وزفراته الحرى حتى قدم بصوته الشجي (ليه يا قلبي ليه)، معاتبًا الفؤاد على الرجوع إليها والحنين إلى التباريح و(عهد جيرون) بعدما أقسم بينه وبينه ألا يبايع إلا فؤاده لكن، وكما قال مظفر النواب في وتَرياته الليلية: كلنا قد تاب يومًا ثم ألفى نفسه قد تاب عما تاب.
مسكين، مسكين الزمن كم أهدانا ريد..
خلى الدنيا جنة وكل أيامنا عيد..
مش في ناس، كما قالت غادة السمان، عندما تلتقيهم تشعر كأنك التقيت نفسك؟ أها عبد العزيز دا منهم، لذلك مَنحهُ الجمهور منذ البدايات ترقية استثنائية في الميدان، وأجمع العباد أن صوته يستعصي الإنعتاق منه، يبعث على مشاعر تٌحَس ولا تُفسّر، صوت يتأرجح كبندول الساعة بين الشجن والأمان والحميمية تارة وبين الهجر والضياع الحارق تارة أخرى، فعندما يُسمِعُك (تطول يا ليل وفيك تطول مآسينا) يرسلك في ثوان إلى شوارع الشتاء كهومليس مضرج بالحرمان، لكنه سرعان ما يفجر فيك نافورة دوبامين بيا عِزنا ويا بختنا فينقلك، كاختصاصي Teleportation بلمح البصر إلى بيدر يضج متعًة وحبورًا.
حباه المولى كل ما يتوفر للفنان الإنسان من رقة ووسامة وأناقة، وقيّض له شعراء كعثمان خالد، وملحنين أولمبيين كالسني الضوي وعمر الشاعر وغيرهما ممن قدموا له نفائس تشبه حنجرته وكيانه الأثيري، فجعلته يصطف مع العماليق سريعًا.
تألق في أدائه لبعض أغنيات الحقيبة، (أنة المجروح) و(صابحني دايمًا مبتسم) وتأوهات في (جور زماني)، وعندما شدا بـ(ضيّعني ساكن الموردة) كادت جمهورية ود مدني الإشتراكية العجيبة أن تثأر لقلبه الجميل، لولا أن البعض أبرقهم أن (الشاكي) هو عبيد عبد الرحمن والذي أورد في رسالته المفتوحة لظبي المسالمة الساهي لاهي أن يرحم في صدوده (بالقدر المناسب) تفاديًا للأوفردوز اليُفضي إلى البكري وأحمد شرفي كداري. صدح بها العزيز (لو أشكر جمالك لا شكرًا لواجب، أبلج.. أفلج.. أدعج.. أزج.. مقرون حواجب) وعزيز مبسوط يوزع اللواعج، ويوجه حركة المرور تحت الكاشفات قائلًا: (شفتك مره غافل نورك، جاني ضارب، أصفر أخضر أحمر زي شفق المغارب)، و دا كلام يغنيه ود المبارك زي التيكي تاكا، وحين يصدح (أحلى عيون بنريدا) تردد خلفه الحسان: عزيز علمنا الريده، ويا سلام على التهاب الريد الحميد.
قيل، الحرمان يبعث في النفس رقة فريدة، والفنان (الإنسان) عبد العزيز المبارك كان يتنزل عليه إلهام يشبه روحه السمحة كرائعته (تحرمني منك) حتى قلّده الشباب وقتها في تزييه. تغنى بها في سهرة تلفزيونية وهو يرتدي قميصا بخطوط أفقية فسمي القميص (تيمنًا) بالأغنية، وما هي أيام إلا وكان الجميع يتمخطر في ال zebra line ولولا التزام المدارس الصارم باليونيفورم لكنا مع المخَطَطَين من الوريد إلى الوتين.
(تحرمني) تضمنت أسئلة في اللاهوت والناسوت والما ورائيات، كسؤاله: إيه الغرام من غير مَحَنّه؟ يكون مظنه؟ حتى لتخال أن الأمر كله وهم محض أو خدر مغربل، وربما خيال (ما وصلناهو).
صدق القائل: الحرمان أحيانًا يعلمنا كم هو كبير حبنا ورائع.
تحرمني منك ومن عيونك تهديني ياما أسى وندم..
يبقى الغرام هيمان يفيض والحب وهم.. والريد عدم..
كل الأمل يصبح سراب..
مسكين غرامنا الإنهزم..
ثمة مبدعين يؤدون رسالتهم سريعًا ويرحلون خلسة في هدوء.
قال غوارديولا أنه في زيارة للأرجنتين، شاهد صورة ضخمة لأعظم من أنجبت الملاعب، مارادونا، مكتوب عليها (لا يهمنا ما فعلت في حياتك، يهمنا ما فعلت في حياتنا).
فشكرا يا عزنا.
Leave a Reply