
د.يوسف مكي
يستعير هذا الحديث عنوانه من كتاب صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، عام 1995م، شارك فيه ثلاثة عشر كاتبًا ومفكرًا من مختلف الأقطار العربية، وجرى تمويله من قبل مؤسسة عبد الحميد شومان. ورغم أن الكتاب صدر قبل ما يزيد على الربع قرن، فإن القراءات والتحليلات التي وردت فيه لا تزال مثيرة ومفيدة في اللحظة الراهنة.
ليس من هدف هذا الحديث الاستغراق في تفاصيل بحوث الكتاب، فذلك ما يفوق طاقته بكثير، ولكن الاستشراد بخلاصات بحوثه في مناقشة معاناة المثقف العربي، وكيف تثقل هذه المعاناة على العمل الإبداعي الذي يفترض أن يؤديه.
المثقف العربي هو فرد من سائر أفراد مجتمعه، يتأثر بعاداته وتقاليده وثقافاته، ويحمل همومه ويشاركه أفراحه وأحزانه، وليس هناك ما يميزه عن غيره سوى تقدمه في الفكر والوعي عن سائر أفراد مجتمعه. والكلام عن الهموم لا يعني اختصاص المثقف بها، بل مستوى ثقلها عليه دون غيره.
في هذا السياق، يناقش المفكر الفلسطيني أنيس صايغ موضوع هموم المثقف، فيوضح أنها ليست همومًا خاصة لفئة معينة من البشر، بل هي هموم تلقي بثقلها على معظم الناس، لكن ثقلها ليس متساويًا على الجميع، بمعنى أن ثقله نسبي، وضغطه على المثقف أعلى بكثير منه على الآخرين. وبالمثل فإن انعكاسات هذه الهموم على أداء المثقف تختلف عن تأثيرها على عموم المواطنين.
فإذا أخذنا على سبيل المثال مطلب الحرية، وهو من الهموم الدائمة للمثقف، ليس في مجالنا العربي فحسب، بل على المستوى العالمي، فإن أي من البشر لا يستطيع تحقيق ذاته وأداء دوره الوظيفي والاجتماعي من دون الحصول، على الأقل، على الحدود الدنيا منها. وكان هذا المطلب مبعثًا لثورات وانتفاضات وأحداث تاريخية كبرى منذ القدم وعلى مر العصور. لكن تأثير وجود هذا الهم يضغط كثيرًا على المثقف أكثر من ضغطه على سائر أفراد المجتمع، لأن شرط العطاء والإبداع في حالته هو توفر مناخات من الحرية تتيح لعمله النجاح.
ولذلك يمكن القول إنه في اللحظات التاريخية التي تضيق فيها مساحات الحرية، تتراجع الثقافة والفكر، وتسود الخرافة والخزعبلات، ويضيع العلم الحق. ومن هنا كان الربط في عنوان هذا الحديث بين الهم والعطاء. وإذا فإن التميز في هذا السياق لا يعني الاستئثار بالحرية، بل لكونها شرطًا وظيفيًا لازمًا، من غيرها يغيب الإبداع، وتغيب الرؤية الواقعية للمستقبل الأفضل. لكن التوق للحرية في جوهره يظل واحدًا، سجلته أسفار الحضارة الفرعونية والإغريقية وحضارة ما بين النهرين والحضارة العربية، بمعنى أنه كان ولا يزال مطلبًا إنسانيًا.
المثقف العربي الآن يعاني من همّين رئيسيين: الأول هو الحرية وقد أسهبنا قدر المتاح بالحديث عنه، والمطلب الثاني هو مقابلة المتطلبات الأساسية للعيش الكريم. وقد تضاعفت أهمية ذلك في السنوات الأخيرة، بحيث يمكن القول إن فئة المثقفين من أكثر الناس عوزًا وحاجة بين الفئات في المجتمعات العربية.
وقد اعتاد الفكر السياسي العربي أن يحمل القوى الخارجية مسؤولية غياب الحقوق، ليس السياسية فحسب بل والمعيشية أيضًا، وذلك صحيح إلى حد كبير، لكن من شأن الاستغراق في ذلك إعفاء الذات الجماعية عن تحمل المسؤولية وبقاء الحال على ما هو عليه. فرفع سقف الحرية في المجتمعات العربية، وهو شرط لازم لاستمرار عطاء المثقف، يقتضي بالدرجة الأولى تكنيس المعوقات الاجتماعية من جهة، والحد من هيمنة حراس ثقافة الاستبداد، ومن جهة أخرى التفاعل مع الحضارة الإنسانية المعاصرة والولوج فيها. لا بد أن تكون من مهام المثقف العمل على تجاوز العناصر الناقصة والمعوقة للنهوض في مجتمعاتنا العربية، وهي مهمة عسيرة لكنها ليست مستحيلة. وتحقيقها هو أقصر الطرق لتجاوز الهموم وتحقيق الذات والنهوض بالثقافة والفكر.
لا مناص في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها المثقف العربي من عمل خلاق يجعل من التحدي عاملًا محفزًا للانطلاق وتقديم عطاء وافرًا، أكثر غزارة، وأرقى مستوى، وأكثر قابلية للبقاء. وقد شهدنا مثل ذلك فيما خلده التاريخ الإنساني من فنون وآداب وفلسفة وإنتاج فكري في عصور معتمة وصعبة.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإن الثقافة ليست شأنًا راكدًا ومحايدًا. إنها صناعة الإنسان، ولن تكون ثقافة حقة إلا في حال التزامها بقضايا الإنسان وهمومه ومستقبله. وذلك يعني تلازم الإبداع بمعايير أخلاقية ووطنية، وبما يعيد الاعتبار للمثقف العضوي، ولمقولة إن المثقف هو ضمير أمته.
* كاتب من السعودية
=
=
“قلت لطفل يشبهني”
أسامة سليمان
#ملف_الهدف_الثقافي
كنتُ وحيدًا
أجلسُ عند النهرِ
وقلتُ لنفسي
بل قلتُ لطفلٍ يشبهني
يجلسُ في نفسِ اللحظةِ عند النيل هناك..
كان الوقتُ صباحًا جدًا
والضوءُ يبلّلٌ أطرافَ الأفقِ،
العتمةُ مازالتْ تتلكأ،
سربُ طيور بيضاء أنثالَ
الطفلُ يحدّقُ
تبدو في الأفقِ نقاطٌ بيضاءُ
وتدنو
تكبرُ حتى تصبحَ أشرعةً
تعبرُهُ
تبعدُ حتى تتلاشى..
قلت لطفلِ يشبهني
حدًّ بزوغِ الأحلامِ
وحدًّ غروبٍ الأحلامِ
الطفلُ يحدّقُ في الأمواجِ
النيلُ الطيِّبُ يرمق قريتنا بهدوءِ العابرِ،
تنهضُ أمواجٌ فاترةٌ ثم تعود إلى السطحِ،
القريةُ غارقةً في الصمتِ كحجرٍ في أعماقِ النهرِ
وقلت لطفلٍ يشبهني حدّ ملاءمةِ الأحلامِ لخيبةِ رجلٍ سوف يكونه
ستسافر.. تهجرُ وجهًك في مدنٍ غائمةٍ
فاحذر أن تنسى وطنك
إذ تهجرً بعضَ ملامٍحك، النسيانُ خفيٌّ يتسرب من بين الأسفار
=
=
=
“أقدار” فلسفة الفقد بين الصادق إلياس ومجذوب أونسة
أمجد أحمد السيد
#ملف_الهدف_الثقافي
من بين الأعمال الغنائية الخالدة في وجدان المستمع السوداني، تظل أغنية “أقدار” للشاعر الكبير الصادق إلياس وأداء الصوت الأصيل مجذوب أونسة، واحدة من تلك النصوص التي لا يبهت بريقها مهما تعاقبت السنين. فهي ليست مجرد لحن عابر، بل رحلة وجدانية تمزج بين الحب والحكمة والفلسفة، وتُقدّم درسًا في كيفية مواجهة الانكسارات الإنسانية.
اختار الصادق إلياس في “أقدار” لغة عاطفية صافية، لا تكتفي بوصف الجرح الشخصي، بل تفتح الباب أمام تأملات أوسع في الزمن وتقلباته. فمنذ المطلع، يضعنا النص أمام خيبة إنسانية كبرى، حيث يتحوّل الحب من وعد بالخلود إلى تجربة ينهشها الفقد، لكن دون أن يفقد الشاعر صفاءه أو إنسانيته.
المحور الأبرز في الأغنية هو الزمن كقوة قاهرة، يتدخل في مصائر العشاق. هنا لا يوجه الشاعر اللوم إلى الحبيب، بل إلى الأقدار التي تسلبه ما هو جميل. هذه الرؤية الفلسفية تعكس عمق التجربة الإنسانية عند إلياس، الذي صاغ الألم في صورة شعرية راقية بعيدة عن الابتذال.
واحدة من أجمل صور النص تكمن في نبل الموقف، فالقصيدة ترفض الانغماس في الغضب أو الشكوى، وتفتح باب التسامح الصادق، في إشارة إلى أن الحب الحقيقي يسمو حتى في لحظة الانكسار.
جاء أداء مجذوب أونسة محملًا بكل ما يلزم من صدق وشجن. صوته، بعمقه الدافئ، أعطى للكلمات حياة أخرى، واللحن البسيط الهادئ جعل المستمع يعيش حالة من التأمل الحزين لا الانكسار الصاخب. فالأغنية لم تُغنَّ لتُبكي فقط، بل لتُعلِّم كيف يمكن مواجهة قسوة الزمن برضا وحكمة.
أقدار يا نور عينيّ أنا كنت فاكرك ليّ
ما كنت متصور يوم أجيك مغلوب
شايل جرح دنياي من زول أكان محبوب
الدنيا ياما توري والدهر يا ما يقري
لمن تفوت إنت.. حبيبي يا إنت
في الدنيا بس شن ليّ؟
أنا كنت فاكرك لي ناسي الزمن وأحكامو
هم البريد في يوم ما بدور يشوف قدامو
تاريهو الزمن بيفرقني منك بعيد يحرمني
يظلم سنينا السمحة تنسى العذاب البِي
صبر السنين الكان حاضننو في الأعماق
كم بقرو منو الناس بقى للعزول حراق
أكان خلاص مليتو قلبي الحنين خليتو
مجبور أسامحك أنا وأمسح دموع عينيّ
أنا ما بلومك إنت ما بعاتبك إنت
مهما الدموع تتحدر
ﺗﻐﻠﺒﻨﻲ ﻏﺼﺒﺎً ﻋﻨﻲ ﺍﻟﺒﻴﻨﺎ ﺃﻛﺒﺮ ﻭﺃﻛﺒﺮ
ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻲ ﻟﻴﻚ ﺑﺘﻤﻨﻰ ﺗﺴﻌﺪ ﺩﻭﺍﻡ ﺗﺘﻬﻨﻰ
ﺑﺎﻛﺮ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﻟﻲ ﻭﺍﻟﺤﻨﺔ ﻓﻲ ﺇﻳﺪﻳﺎ
ﻳﺎﻟﻜﻨﺖ ﻓﺎﻛﺮﻙ ﻟﻲ
“أقدار” ليست أغنية عن حب انتهى، بل نصٌّ عن فلسفة الفقد الإنساني، عن قدرة الشاعر والمطرب معًا على تحويل الألم الشخصي إلى تجربة جماعية يتشاركها كل من مرّ بخيبة أو فراق. لهذا بقيت الأغنية خالدة، تُستعاد مع كل جيل لأنها تعبّر عن الجرح المشترك والكرامة العاطفية في آن واحد.
بكلمات الصادق إلياس وصوت مجذوب أونسة، تحوّلت “أقدار” إلى أكثر من عمل غنائي؛ إنها سيرة وجدانية مفتوحة، تسكن وجدان المستمع السوداني وتمنحه عزاءً جماليًا في مواجهة قسوة الأقدار.
Leave a Reply