
يوسف الغوث
#ملف_الهدف_الثقافي
في موروثنا الشعبي، الذي يعكس تاريخ أمتنا العريقة وحضارتها الضاربة في الجذور، كان يُؤتى بجملٍ معصوب العينين ليدور عكس اتجاه عقارب الساعة حول قالب خشبي ضخم، مصنوع من جذور الأشجار الصلبة، مُجوّف ومثبت بإحكام في الأرض. يوضع في داخله كميات من نبات السمسم (الحَرِيحِري)، فتتم عملية هرسه بفعل دوران الجمل حول العمود المثبت في المركز. هذه العملية عُرفت قديمًا باسم العصّارة.
انتشرت العصّارات في معظم أرجاء بلادنا الحبيبة، بوصفها صنعة متجذرة في تاريخ يمتد لمئات السنين. وغالبًا ما تستمر عملية العصر ما بين ثلاث إلى خمس ساعات، ويُستخدم خشب السدر في الغالب، لما يتميز به من صلابة وقدرة عالية على التحمل.
ويمتاز زيت العصّارة بطعمه الذكي، ورائحته النفاذة، ولونه البني الجميل. وتتم عملية العصر عادةً في أربع مراحل، أولها ما يُعرف بـ زيت الولد، وآخرها مرحلة الأمباز. ولعل سر التسمية ارتبط بطبيعة الزيت المنتج أو بمكونات العصارة نفسها؛ إذ أن “الولد” هو أحد أجزائها. لكن الحقيقة الثابتة أن الزيت المستخرج من العصّارة يختلف تمامًا عن الزيت المصنّع في المصانع، حيث تفقد الزيوت الصناعية الكثير من خصائصها بسبب الحرارة المستخدمة في عملية الإنتاج.
وهكذا ينتج زيت العصّارة في أجواء طبيعية تحفظ خصائصه، فيكون زيتًا شهيًّا ذا رغوة كثيفة، غنيًّا بمضادات الأكسدة، ونافعًا في معالجة أمراض عديدة مثل التهابات الجهاز التنفسي والمفاصل، وآلام الأسنان. كما يُستخدم في تحسين صحة الشعر، والمساعدة في التئام الحروق والجروح.
أما حديثنا الخاص اليوم فيتعلق بمرحلة مميزة تُعرف باسم أم جغوغة، وهي المرحلة قبل الأخيرة في إنتاج الزيت. لهذه المرحلة خصوصيتها وشجونها، إذ أن “أم جغوغة”، أو كما يُقال أحيانًا “الضاقة غوغة”، ارتبط اسمها بصياح الديك، في إشارة إلى أن من يتذوق طعمها يصيح عاليًا كما يفعل الديك، لما فيها من حلاوة ولذة فريدة. و”أم جغوغة” في الدارجية تعني الشيء اللين، وهي وجبة دسمة إذا أُضيف إليها قليل من السكر.
غالبًا ما كانت “أم جغوغة” زادًا للمزارعين والمسافرين على الدواب في قرانا البسيطة، إذ أن ما تحتويه من زيت يحافظ عليها لفترات طويلة دون أن تتعرض للتخمّر أو الفساد.
ختامًا، نحن لا ندعو إلى أصالةٍ جامدة ولا إلى معاصرةٍ منبتّة الجذور، بل إلى مسؤولية مجتمعية مشتركة، تُلزمنا جميعًا بالمساهمة في تعريف الأجيال القادمة بتراثهم وثقافتهم، والحفاظ عليها وتطويرها بما يواكب حضارات الأمم والشعوب الأخرى.
Leave a Reply