الحرب.. من المحنة إلى البحث عن بداية جديدة

صحيفة الهدف

الحرب ليست مجرد حدث سياسي أو عسكري؛ إنها كارثة كبرى تهزّ الكيان الإنساني من جذوره، وتقتلع الناس من بيوتهم وتدفعهم إلى مسارات لم يتخيلوها. فمن ينجُ من القصف والجوع يجد نفسه أمام امتحان جديد: كيف يعيش؟ وكيف يعيل أسرته في وطن أنهكته النار أو في غربة لا ترحم؟ ومن المستحيل أن يخرج الإنسان من أتون الحرب كما دخلها، إذ تغيّره حتمياً، إمّا نحو القوة والصمود، أو نحو الضعف والانكسار.
99٪ من السودانيين خسروا أموالهم وممتلكاتهم، لكن ذلك يظل أهون من الخسارة الكبرى: فقدان الصحة أو الأطراف أو البصر أو فقدان الروح. ومع ذلك، تبقى الهزيمة الداخلية أخطر من كل ذلك: حين يتحول الإنسان إلى أسير للتشاؤم والضيق والحسرة، فيبقى حبيساً لانكساره. لكن في المقابل، هناك من واجهوا العاصفة بصلابة، وحوّلوا الألم إلى دافع، ففتحوا لأنفسهم أبواباً جديدة للحياة، سواء داخل السودان أو في المنافي البعيدة.
تتعدد القصص والحكايات والنماذج، هذه معلمة كانت تحمل دفاتر طلابها وأحلامهم، لكن الحرب أجبرتها على النزوح خارج السودان، لتجد نفسها بلا مدرسة ولا راتب. بدأت ببيع الكسرة في فرن صغير لتأمين لقمة العيش، ومع الوقت تحولت الفكرة البسيطة إلى مطعم شعبي يقصده أبناء الجالية السودانية ويذكّرهم بالوطن.
وذاك كان موظفاً بسيطاً يعيش حياة مستقرة، حتى قلبت الحرب موازين حياته. نزح إلى دولة قريبة بلا مال ولا سند، وبدأ يصنع السبح بيديه ويبيعها للمارة. شيئاً فشيئاً، نما عمله حتى صار له متجر ثابت، فتحولت محنته إلى مصدر كرامة ورزق كريم.
المهندس المدني، الذي كان ملء السمع والبصر، وحلماً في أعين طلابه وزملائه، ضاقت أمامه أبواب الرزق بعد النزوح. لم يستسلم، بل تعلّم خياطة الأحذية بيديه. بدأ بإصلاح ما يُجلب إليه في السوق، ومع الأيام افتتح محلاً صغيراً صار عنواناً لإصراره. تحوّل من هندسة البنايات إلى هندسة الخيط والجلد، ومن الأسمنت والطوب إلى الإبرة والخيط، لكنه ظل معلّماً على طريقته الخاصة: يعلّم نفسه كيف ينهض من تحت الركام، ويصوغ حياة جديدة من قلب المحنة.
لم تتوقف قصص التحدي عند الحدود القريبة. في أوروبا، بدأ شاب كسائق توصيل عبر التطبيقات، ثم ادخر أجره ليؤسس ورشة لإصلاح الدراجات الهوائية، فأصبح معروفاً وسط الجالية. وفي الخليج، عملت شابة سودانية في المنازل بدايةً، ثم طوّرت مهاراتها في الطبخ حتى أصبحت تدير مطبخاً خاصاً وتُشرف على ولائم كبيرة.
هذه الحكايات ليست مجرد قصص فردية، بل شهادات على قدرة الإنسان على النهوض وسط الخراب. فالحرب كارثة لا شك، لكنها أيضاً امتحان قاسٍ يكشف جوهر البشر: من استسلم لها بقي أسيراً لانكساره، ومن قاومها بلا خجل أو تكبر، وجد في قلب المأساة بذور بداية جديدة، وصنع مستقبلاً يقوم على الاعتماد على الذات لا على الآخرين.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.