إفرازات الحرب.. تلوّث بيئي وبصري ومستقبل مجهول

صحيفة الهدف

لم تقتصر الحرب الدائرة منذ ثلاث سنوات ونصف على فقدان (300) ألف من الأرواح والأنفس، وفق تقديرات محايدة، بل امتدت الآن لتدمير المستقبل وإفراغ الأرض من أهلها، من خلال استخدام السّيانيد والزئبق في عمليات التّعدين عن الذّهب بشكل مفرط، وعلى نطاق واسع في مناطق سيطرة أطراف الحرب المتعدّدة. وخطورة السيانيد في كونه مادة سامة جدًا يمكن أن تسبّب التّسمم والوفاة في الحال، أمّا الزئبق فهو تركيب كيميائي فلّزي ثقيل (Hg) يُستخدم في التّعدين والكهرباء والطب. وخطورة الزئبق أكبر من السيانيد، لأنه مادة سامة أيضًا، ويمكن أن تسبّب التّسمم وأضرارًا صحية وبيئية طويلة الأجل إذا لم يتم التّعامل معها بشكل صحيح، وهو أمر لا يمكن الوصول إليه في ظروف الحرب الرّاهنة.
وإذا كان الحد الأقصى المسموح به للسّيانيد في الماء: 0.2 ملجم/ لتر (المصدر: منظمة الصِّحة العالمية)، فبالنسبة للزئبق الحد الأقصى المسموح به في الهواء هو: 0.05 ملجم/ م³ (المصدر: إدارة السّلامة والصِّحة المهنية الأمريكية).
ومنذ أكثر من 10 سنوات يُستخدم الزئبق والسّيانيد في التّعدين على نطاق واسع، رغم قرارات حظر استخدامهما منذ العام 2019م، ممّا سبّب مخاطر بيئية وصحية كبيرة. وبمقارنة المادتين، فإن الزئبق هو المصدر الأكبر للتّلوث، ويمثّل 38% من الانبعاثات، ويتسبّب في تسميم عمال المناجم وتدمير الأراضي الزراعية وتسربه إلى المياه الجوفية. وخطورة السّيانيد تتمثّل في تأثيراته المدمّرة على الجهاز التّنفسي والقلب، كما أن تسرّبه يؤدي إلى تشوّه الأجنّة ونفوق الماشية بأعداد كبيرة، في مناطق متعدّدة وواسعة من السُّودان.
ووفق وزارة الصِّحّة هناك (20) ألف حالة سرطان سنويًا، 8% منها أطفال، وقد حدث تلوّث للمياه في نهر النّيل وتدمير لأراضٍ زراعية وبساتين. وهذه المواد الخطرة تحتكر استيرادها شركة حكومية واحدة، استوردت 4 آلاف طن في أكتوبر 2021م، و400 طن أخرى عبر شخصية سياسية نافذة، كما طلبت الشّركة استيراد 600 طن في العام 2023م.
إنّ استخدام السّيانيد والزئبق أصبح قضية بيئية خطيرة تُهدّد حياة ملايين السُّودانيين، بأكثر من خطورة الحرب نفسها، حيث بلغت نسبة الزئبق في التّربة في منطقة واحدة 1.91 طن. ومن المؤكد أن هذه المواد السّامة تسبّب تلفًا في الجهاز العصبي، والشّلل، وتلف الأنسجة الحامية للمُخ، وتشوه الأجنّة، والإصابة بالأورام السّرطانية، لأن السّيانيد والزئبق يُستخدمان في تعدين الذهب دون مراعاة للآثار البيئية. وقد وُجدت تراكيز عالية من الزئبق في مياه الشّرب في بعض القرى بلغت 0.64 جزء في المليون، وبلغت أعلى نسبة تركيز في قرية بانت 6.4 أجزاء في المليون.
هذا هو واقع التّلوث في بلادنا قبل الحرب، واليوم أصبح التّعدين والبحث عن الذهب المصدر الوحيد لتمويل أطراف الحرب وديمومتها، وبالتالي دخلت هذه المواد السّامة طرفًا أصيلًا في الحرب على السودانيين بالأمراض والتّلوث البيئي.
أما التّلوث البصري فلا تخطئه العين في كل المدن والقرى والأحياء التي طالتها الحرب؛ حيث يرى الزائر للخرطوم صور آلاف البُنى التحتية المدمّرة، من كباري وطُرق ومبانٍ ومؤسسات ومدارس ومستشفيات ومراكز صحية مهدّمة، وأعمدة كهرباء مقطوعة وخطوط مياه متفجّرة، وآثار حرائق وتخريب، وكلاب ضالة، وروائح الجُثث في الأزقة والبيوت المهجورة، وأكوام النفايات تُغطي الطُّرقات، وأوراق وأشياء مبعثرة، وجيران وأحباب وأصحاب ما زالوا في غياب، وأشجار نمت وملأت مساحات فارغة تحكي عن أهوال المأساة وفداحة الجُرم في حق الوطن وأهله، وقد غادرتها ألعاب الأطفال البريئة في الأمسيات.
ورغم تلك الضغوط النفسية والأمنية والمعيشية الهائلة، يُطلب من المواطنين العودة إلى المدن الخراب، والحياة السّراب، التي ينعدم فيها الأمن والعمل وسُبل كسب العيش، ولا يتوفّر فيها الحد الأدنى من متطلبات الإنسان في الحياة، مع غلاء فاحش في الأسعار وتضخّم متسارع، وفقدان العملة الوطنية لقيمتها. ولسان حال المواطنين يُردّد مع الشّاعر محمود درويش: “نحن نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.”

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.