المقالة: السودان والعروبة: البعد القومي في معركة السلام والسيادة(5 – 5 )
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
المقدمة: السودان (الجسد العربي في أفريقيا والروح الأفريقية في العروبة): (مصر والسودان.. وادي النيل واحد وشعب واحد) – هذه العبارة ليست مجرد شعار سياسي، بل هي تجسيد لحقيقة أنثروبولوجية وجيوبوليتيكية عميقة. السودان ليس جسدًا جغرافيًا يقبع على تخوم العروبة وأفريقيا، بل هو القلب النابض، الذي يضخ دم الهوية العربية في شرايين القارة، ويضخ دم الأفريقانية في شرايين الأمة العربية. في معركة السلام والسيادة، يصبح البعد القومي العربي هو الجذر الوجودي، الذي يمنع الشجرة السودانية من الانكسار أمام عواصف التفتيت. لقد كان السودان في أدبيات البعث ومفكريه ليس مجرد هامش جغرافي، بل قلبًا ينبض بالوحدة. قال الأستاذ ميشيل عفلق: (الوحدة ليست مشروعًا إداريًا، بل قدر تاريخي للأمة)، والسودان يمثل هذا القدر في التقاء وادي النيل مع العمق الأفريقي.
أولاً: السودان في المشروع القومي العربي – من الجغرافيا إلى المصير
1. الموقع الجيوسياسي: البوابة الوجودية: السودان ليس مجرد (بوابة العرب إلى إفريقيا) بالمعنى الاستراتيجي الضيق، بل هو العضو الحيوي، الذي يربط جسد الأمة العربية بعالمها الإفريقي. هو الحلقة العضوية في سلسلة الوجود العربي، التي إن انقطعت، انفصل الجسد عن نصف كيانه الطبيعي. سقوط السودان في الفوضى يعني إغلاق آخر منافذ العروبة الطبيعية إلى عمقها الاستراتيجي في القارة.
2. الثروات الطبيعية:( السلة والوعي(: كون السودان (سلة غذاء العالم العربي) ليس مجرد حقيقة اقتصادية، بل هو رمز لدور الوفاء في المشروع القومي. الأمة، التي تطعمها أرض السودان، هي الأمة، التي تثق بأن مستقبلها الغذائي لا يرتهن لإرادة الآخر. لكن هذه السلة لا تحمل الخبز فقط، بل تحمل وعيًا بأن الأمن القومي العربي لا يكتمل إلا بأمن السودان.
فالسودان يمتلك أكبر مساحة زراعية قابلة للري في إفريقيا جنوب الصحراء، ويمثل المصدر الأول للصمغ العربي عالميًا، بما يعادل أكثر من (70% )، من السوق الدولية.
•
3. العمق الحضاري:( الجسر الذي لا ينقطع): السودان ليس جسرًا بين حضارتين فحسب، بل هو النسيج الحضاري الحي، الذي يحمل في دمائه DNA العروبة والإفريقانية معًا. هنا، في هذه الأرض، تتحول الهوية من حالة انفصام إلى حالة تكامل، ومن صراع إلى تناغم. السوداني هو العربي الإفريقي، الذي يحمل رسالة التكامل لا التصادم.
ثانيًا: الأبعاد الاستراتيجية :(من الأزمة السودانية إلى المأزق القومي):
1. تداعيات الأزمة: احتضار الجسد القومي): الأزمة في السودان ليست أزمة دولة فحسب، بل هي اختبار لحيوية المشروع القومي العربي برمته. انهيار السودان يعني انهيار آخر الحلقات، التي تربط المشرق بالمغرب العربي بإفريقيا. هو انكسار في العمق الاستراتيجي، الذي يحمي الأمن القومي العربي من الاختراقات الخارجية.
2. مخاطر التدخلات:( معركة الوجود لا النفوذ(: التدخلات الخارجية في السودان ليست صراعًا على النفوذ فحسب، بل هي معركة على إعادة تشكيل الخريطة الوجودية للأمة العربية . من يسيطر على السودان يسيطر على مفتاح إفريقيا، ومن يسيطر على إفريقيا يتحكم في مستقبل العروبة.
لقد بدا واضحًا في السنوات الأخيرة أن التنافس الدولي على السودان، من الصين وروسيا إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ليس صراعًا على الموارد فقط، بل على إعادة تعريف موقعه في الخريطة القومية.
3. فرص التعاون:( من منطق الصراع إلىمنطق التكامل(:الأزمة السودانية تفتح فرصة تاريخية للتعاون العربي ليس كتحالف مصالح وقتية، بل كتضامن وجودي. التعاون الاقتصادي والأمني العربي ليس خيارًا تكتيكيًا، بل هو ضرورة وجودية لإنقاذ الجسد القومي من التمزق.
ثالثًا: الرؤية البعثية : (من الشعار إلى المشروع الحضاري) :
1. من (أمة عربية واحدة) إلى (سودان موحد): الرؤية البعثية تنتقل من الشعار المجرد إلى المشروع الملموس: سودان موحد ومستقل ليس فقط لخدمة مصالحه، بل ليكون ركيزة للمشروع القومي العربي. الوحدة السودانية هنا تصبح نموذجًا مصغرًا للوحدة العربية المنشودة.
2. التوازن الوجودي:( العروبة والإفريقانية: البعثية هنا ترفض أن تكون هوية السودان مسألة اختيار بين العروبة والإفريقانية، بل ترى فيها تكاملًا وجوديًا. السودان هو العربي الإفريقي، الذي لا ينتمي إلى نصفيه، بل يجمعهما في هوية واحدة.
3. السودان: (الجسر الحضاري لا الحاجز): السودان في الرؤية البعثية ليس حاجزًا يفصل بين عالمين، بل هو جسر يربط بينهما. هو المكان، الذي تتحول فيه الحدود من خطوط فصل إلى مساحات لقاء، والهوية من معزل عنصري إلى فضاء تلاقح.
وكما قال الشهيد صدام حسين في خطاب عام 1979: (العراق لا يقاتل من أجل نفسه فقط، بل من أجل الأمة كلها)، وهذا المبدأ ينطبق على السودان: وحدته ليست شأنًا سودانيًا داخليًا بل شرطًا لوحدة الأمة العربية بأسرها.
رابعًا: آليات التفعيل : (من الخطاب إلى الفعل القومي):
1. دور الجامعة العربية: (من البروتوكول إلى الفعل(: الجامعة العربية مدعوة لتركيز (بروتوكولات الخطاب) إلى (آليات الفعل). الوساطة هنا يجب أن تكون وساطة وجودية، لا دبلوماسية شكلية. وساطة تجعل من الأزمة السودانية قضية قومية مصيرية، لا مجرد نقطة على أجندة اجتماعات.
2. التعاون الاقتصادي: (من الإغاثة إلى الشراكة(: التعاون الاقتصادي العربي يجب أن ينتقل من منطق الإغاثة إلى منطق الشراكة الاستراتيجية. استثمار في بناء سودان قوي، هو استثمار في أمن قومي عربي متكامل.
3. التنسيق الأمني: (من رد الفعل إلى الفعل الاستباقي( التنسيق الأمني العربي يجب أن يتحول من الدفاع إلى المبادرة. مكافحة التدخلات الخارجية ليست حماية لحدود السودان فحسب، بل حماية لحدود الأمة العربية الوجودية.
يمكن أن يبدأ ذلك بإنشاء صندوق عربي-سوداني للاستثمار الزراعي، بحيث تُدار موارده من خلال شراكة حقيقية لا مجرد قروض مشروطة، بما يحول السودان إلى قاعدة أمن غذائي للأمة العربية.
الخاتمة:( السودان – المشروع الحضاري المتكامل) السودان ليس مجرد دولة، بل هو مشروع حضاري يجمع بين العروبة والإفريقانية والإنسانية. هو النموذج الحي على إمكانية التعايش بين الهويات المتعددة، والتكامل بين الثقافات المختلفة. السلام في السودان ليس شأنًا سودانيًا فقط، بل هو قضية مصيرية لكل عربي يعي أن جرح السودان هو جرح في خاصرة العروبة، وشفاؤه هو شفاء للأمة العربية جمعاء، بالتالي فالسودان هو الاختبار الحقيقي لمشروعنا القومي، إن نجحنا في إنقاذه، نكون قد أنقذنا مستقبل العروبة. وإن فشلنا، نكون قد خسرنا ليس دولة، بل شرطًا من شروط وجودنا الحضاري. إذًا إن إنقاذ السودان ليس مجرد واجب قومي، بل هو واجب وجودي يحقق معنى الاستخلاف القرآني: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61). فالسودان ليس مشروعًا جغرافيًا فحسب، بل هو امتحان للقدرة العربية على تحويل الألم إلى مشروع حضاري جامع. فالعروبة ليست دماء في العروق، بل هي ثقافة في القلوب، وإرادة في الضمائر. والسودان هو ذلك القلب الكبير، الذي يضخ ثقافة العروبة وإرادتها في كل شرايين الأمة العربية، و إن نوقف نبض هذا القلب، توقفت حياة الأمة.

Leave a Reply