
رفعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في تقريرها الصادر بتاريخ 23 سبتمبر الجاري، توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي لعام 2025 من 2.9% إلى %3.2، مدفوعة بارتفاع الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي وزيادة الصادرات في بعض الدول الصناعية الكبرى، خاصة قبيل موجة جديدة من الرسوم الجمركية الأميركية.
لكن خلف هذه الأرقام البراقة، تتكشف صورة أكثر تعقيدًا. فبينما تسجّل دول كالهند واليابان والولايات المتحدة معدلات نمو متسارعة، تظل اقتصادات أخرى، وعلى رأسها كوريا الجنوبية وألمانيا، في حالة من الركود النسبي، ناهيك عن اقتصادات الدول النامية، التي لا تزال تواجه تحديات بنيوية تعوق استفادتها من هذا الانتعاش.
النمو العالمي لا يعني الشمول
رغم الرفع العام في التوقعات، فإن المنطقة العربية وشمال وشرق إفريقيا تبقى خارج الدائرة الفعلية للتعافي العالمي. ففي العديد من الدول العربية، ما زالت الآثار المركبة لجائحة كوفيد-19، والحروب، والتغيرات المناخية، والديون السيادية، تُقيّد مسارات التنمية المستدامة. كما تواجه هذه الدول تحديات في الأمن الغذائي، وتباطؤ في تدفقات الاستثمار الأجنبي، فضلًا عن هشاشة البنية التحتية الرقمية التي أصبحت شرطًا للنمو الحديث.
وفي شمال إفريقيا، لا تزال اقتصادات مثل تونس والمغرب ومصر تعاني من فجوات تمويلية متزايدة، وتضخم مرتفع، وتراجع ثقة الأسواق. أما في منطقة شرق إفريقيا، فالآمال في تعافٍ مستدام ما تزال تصطدم بتحديات هيكلية مثل النزاعات، وضعف سلاسل التوريد، وتراجع فرص التمويل التنموي.
السودان: الاقتصاد في مهبّ الحرب
أما السودان، فهو حالة استثنائية تُجسّد كيف يمكن للصراع المسلح أن يمحو عقودًا من المكاسب الاقتصادية والمؤسسية في غضون أشهر. فمنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، انهارت معظم مؤشرات الاقتصاد السوداني:
– توقفت البنوك عن العمل.
– تعطلت سلاسل الإمداد.
– فقدت العملة المحلية قيمتها بشكل حاد.
– تفاقمت معدلات الفقر والتشريد، وتآكلت مؤسسات الدولة.
وفي ظل غياب حل سياسي، بات السودان خارج حسابات النمو الاقتصادي، لا في تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فحسب، بل حتى في أجندات التمويل الدولي. وهو أمر يتطلب تدخلا دوليًا عاجلاً لا يقتصر على الجانب الإنساني، بل يشمل إعادة بناء الدولة، ودعم مؤسساتها الاقتصادية، وإعادة إدماجها في النظام المالي الإقليمي والدولي.
من الفلسفة إلى الفعل: توصيات للمنطقة وللسودان أولاً:التحول من ردّ الفعل إلى التخطيط الاستباقي
ينبغي على الدول العربية والإفريقية الانتقال من عقلية “إدارة الأزمات” إلى “بناء المستقبل”، من خلال:
– الاستثمار في التعليم الرقمي والتقنيات الحديثة. وضخ استثمارات حقيقية في التعليم، والبحث العلمي، والبنية التحتية الرقمية.
– تطوير بنى تحتية مرنة قادرة على امتصاص الصدمات.
– تقليل الاعتماد على السلع الأساسية والانتقال نحو اقتصادات المعرفة.
– تنويع مصادر النمو: تقليل الاعتماد على النفط، والانفتاح على الاقتصاد الأخضر، والطاقة المتجددة، والتصنيع المحلي
ثانيًا: بناء تكتلات إقليمية قادرة على التفاوض
كما تفعل دول مجموعة العشرين الاقتصادية G20، فعلى المنطقة أن تبني منصات تفاوض جماعية مع القوى الاقتصادية الكبرى، لضمان أن لا تكون مجرد سوق استهلاكية أو منطقة عبور للطاقة، بل شريكًا فاعلًا في رسم السياسات الاقتصادية العالمية.
ثالثًا: إعادة التفكير في مفهوم “النمو”
النمو الاقتصادي، كما تقيسه المؤسسات العالمية، لا يعكس دائمًا جودة الحياة . بالتالي نستطيع أن نقول بدون رياء ما فائدة نمو اقتصادي يتحقق بنسبة 3% إذا بقيت نسب البطالة مرتفعة؟ وإذا كان التعليم في تراجع؟ وإذا كانت البيئة تتدهور؟
لذلك، ينبغي أن نعيد تعريف النمو ليشمل:
– العدالة الاجتماعية
– التمكين المجتمعي
* الاستدامة البيئية
رابعًا: خطة إنقاذ شاملة للسودان
يجب ان يكون السودان أولوية إقليم، يحيث لا يمكن الحديث عن استقرار اقتصادي في شرق إفريقيا دون إنهاء الحرب في السودان. ومن هنا، يجب دفع جهود الوساطة الدولية، مع دعم عاجل لخطة إنقاذ اقتصادية إنسانية شاملة. فعلى المجتمع الدولي، والمنظمات الإقليمية الأفريقية والعربية، ألا تكتفي بالإدانة اللفظية لما يحدث في السودان من حرب تدميرية. بل المطلوب هو:
– وقف شامل لإطلاق النار بضمانات دولية.
– تشكيل هيئة اقتصادية مستقلة مؤقتة لإدارة الشؤون المالية.
– توفير دعم إنساني واقتصادي مباشر لإعادة بناء المؤسسات الحيوية.
– إدماج السودان في برامج طويلة الأمد لإعادة الإعمار والتنمية، بما يضمن استعادة الثقة والاستقرار المؤسسي، وربط الاقتصاد السوداني مجددًا بالاقتصادين الإقليمي والعالمي
أخيرا: من سيحجز مقعده في قطار المستقبل؟
إن العالم، كما ترسمه تقارير المؤسسات الدولية، ليس ساحة محايدة. فالتقارير، رغم موضوعيتها الظاهرة، غالبًا ما تُظهر ما تريد القوى الكبرى رؤيته، وتُخفي ما لا يُناسب سردياتها. لذلك، فإن مسؤولية الدول العربية والإفريقية ، وفي طليعتها النخب الفكرية والاقتصادية ، أن تُعيد تعريف أولوياتها، وأن تعمل على بناء نموذجها الخاص للتنمية المستدامة، القائم على العدالة، والكرامة، والابتكار.
والسؤال الآن ليس: هل سينمو الاقتصاد العالمي؟ بل هو: من سيكون جزءًا من هذا النمو؟ ومن سيُترك على الهامش؟
Leave a Reply