
طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
نظمت ندوة فكرية في( 27 يوليو 2025)، برعاية التنسيقية النسوية الموحدة، شارك فيها كل من المهندس عادل خلف الله (عضو قيادة قطر السودان والناطق الرسمي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي) والدكتور جمال سر الختم الجاك (أستاذ القياس والتقويم النفسي والتربوي بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا)، وقد تناولت الندوة محورين جوهريين:
1. المحور الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
2. المحور النفسي.
جاءت الندوة كتأمل جماعي وفكري عميق في الخراب الممتد الذي أنتجته الحرب العبثية، وذلك عبر إعادة قراءة الواقع السوداني من منظور فلسفي وإنساني يتجاوز الأرقام والتقارير إلى جوهر الأزمة الوجودية التي يعيشها الوطن.
أولاً: المحور الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تقديم وتحليل: م. عادل خلف الله –( قراءة تحليلية وفكرية موسّعة):
الحرب في السودان لم تكن فقط دمارًا ماديًا يُرى بالعين، بل فعلًا تأويليًا يهدم الرموز المؤسسة للمعنى الجمعي. حين دُمرت المستشفيات، لم تُضرب كمبانٍ فحسب، بل كرموز للرحمة؛ وحين نُهب البنك، لم يُسلب المال فقط، بل سُلبت معه الثقة، والعقد الاجتماعي. الحرب السودانية لم تمزق الجغرافيا، بل تمزق السردية، والهوية، والانتماء. وإن تهجير الناس لا يُقاس فقط بعدد الخيام، بل بدرجة اقتلاع الإنسان من جذوره الرمزية: من لهجته، من مقبرته، من المقهى الذي كان شاهداً على صداقاته. بهذا المعنى، لم تكن الحرب على الجغرافيا، بل على السردية الوطنية. فتساقطت السيادة لا بوصفها مؤسسة دستورية، بل كتصور جمعي للانتماء، ودخل السودان مرحلة (ما قبل الدولة) مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليس من باب التاريخ، بل من باب الانهيار الوجودي للمعنى.
في الدول الهشّة، الاقتصاد ليس فقط أدوات قياس للنمو والتضخم والبطالة، بل هو نظام أخلاقي يقوم على افتراضات غير مكتوبة: أن من يعمل سينال أجراً، ومن يدّخر سينجو، وأن المستقبل قابل للتخطيط. بالتالي فالاقتصاد كضحية أنطولوجية لا فقط مالية لكن الحرب السودانية مزّقت هذا العقد غير المرئي حيث:
أ. لم يعد الجهد مفضيًا إلى نتيجة، بل يُصادر بالسلاح.
ب. لم تعد الملكية مصونة، بل أُعيد تعريفها كغنيمة.
ت. لم يعد المستقبل تصورًا، بل غيابًا، فراغًا، وقلقًا دائمًا.
انهار الجنيه، نعم، لكنه انهار كـ (رمز للثقة)، لا كقطعة نقدية فقط. فحين يتحول السوق إلى ساحة نهب، ووسائل الإنتاج إلى أدوات غلبة، فإننا لا نعود في اقتصاد حديث، بل في حالة ما قبل السوق، أي اقتصاد الغزو لا التبادل، واقتصاد الفوضى لا القيمة.
أما النسيج الاجتماعي لا يتمزق فقط حين تتفكك الأسرة أو ينزح الجار، بل حين يتحول الآخر إلى تهديد دائم. لقد فقدت القرابة معناها كضمان، وصار الأخ قد يُصبح خصمًا في معركة النجاة. الحي لم يعُد حيًّا، بل أطلالًا خاوية على جدرانها ذكرياتٌ مُصابة بالذعر. أما المدينة، فهي لم تعد مكانًا، بل أصبحت فراغًا بلا مرآة للذات. في ظل هذا الواقع، لم تعد الهوية مجرد سؤال سياسي، بل أزمة أنطولوجية: من أنا، إذا أصبحت غريبًا حتى عن لهجتي ومكان نشأتي؟ من أنا إن لم أجد ذاتي في المجتمع الذي كنت أعيش فيه؟ فلسفيًا، يمكن القول إن الإنسان السوداني يعيش اليوم ما بعد الذات الاجتماعية: بلا مرآة، بلا سرد، بلا سياق. الذات مبعثرة، والمجتمع منشطر، والوجود فقد اتساقه.
كما لا يمكن قراءة الكارثة البيئية في السودان بوصفها ضررًا ثانويًا. فالبيئة — بوصفها حضنًا صامتًا للوجود الإنساني — قد رفعت صوت احتجاجها، لا بالخطاب، بل بالتحلل والصمت. البيئة كعلامة على فشل العلاقة بين الإنسان والكون.
أ. حرق الغابات وتدمير الغطاء النباتي ليس فقط أثرًا للحرب، بل فعلًا يدل على انقطاع أخلاقي بين الإنسان ومحيطه.
ب. تجفيف النيل وتسميم التربة ليسا مجرد خسائر زراعية، بل علامات على فشل العقد بين الطبيعة والإنسان.
هكذا تدخل البيئة في حالة (طرد صامت) للبشر، كما لو أن الأرض نفسها تُعيد النظر في استحقاق الإنسان للإقامة عليها. وهذا ليس خطابًا رومانسياً، بل لحظة تأمل فلسفي: حين تُجرَح الطبيعة، فإن الكون يُسجّل سقوط الإنسان في اختبار التعايش.
الحديث عن إعادة البناء يفترض أن هناك ما يمكن ترميمه. لكن السودان، كما يشير المهندس عادل خلف الله، لم يكن يملك بنيانًا مؤسسيًا مكتملًا حتى تنهار قواعده. لذلك، فالسؤال الحقيقي هو: هل يمكن التأسيس لا من الأنقاض، بل من العدم ذاته؟ من الخراب إلى السؤال: هل يمكن التأسيس من العدم؟ المطلوب ليس إعادة ما كان، بل تأسيس ما لم يكن، عبر مشروع فكري ومؤسسي جديد: حيث أن :
أ. الدولة: ليست جهازًا إداريًا، بل مشروعًا للعدالة الشاملة.
ب. الاقتصاد: ليس وسيلة نهب، بل شبكة تضامن وإنتاج.
ت. المواطنة: ليست ميراثًا إثنيًا أو طائفيًا، بل عقدًا عقلانيًا يقوم على الحقوق والواجبات.
ث. الأرض: ليست غنيمة، بل كائن حيّ، شريك في الحياة، يُحترم لا يُستباح.
ج. إنها ليست (إعادة إعمار) بل (إعادة تعريف)، لا عملية هندسية بل فلسفية، تبدأ من اللغة وتنتهي عند التخطيط.
فالخراب الذي كشفته الحرب لم يكن مستورًا، بل مموَّهًا. ولعل أعظم ما فعلته هذه الكارثة أنها أسقطت الأقنعة، وكشفت أن السودان لم يكن يومًا (دولة مكتملة)، بل مشروعًا مؤجلًا. فالحرب ليست نهاية… بل بداية انكشاف الحقيقة. وهنا تتقدم الأسئلة على الأجوبة، ويغدو المفكر والمثقف والفيلسوف أهم من المهندس والسياسي:
أ. كيف نعيد تعريف الوطن؟.
ب. كيف نُعيد بناء المواطن؟.
ت. كيف نستعيد المعنى في فضاء لم يعُد يحتمل الزيف؟
السودان لا يحتاج فقط إلى لبنات إسمنت، بل إلى لبنات معنى. إلى استعادة الثقة، لا فقط في العملة، بل في الإنسان، في اللغة، في الحلم.
ثانيًا: المحور النفسي تقديم وتحليل: د. جمال سر الختم الجاك – (قراءة تحليلية وفكرية موسّعة)
1. الحرب ليست حدثًا… بل زلزالًا في بنية الوعي الحرب لا تغيّر المكان فقط بل تُفكك الإدراك ذاته. إنها انهيار في قدرة الإنسان على تفسير واقعه. اللغة تتفكك، والصمت يغدو اللغة الوحيدة الممكنة.
2. صدمة الحرب كخلل في الحصانة الوجودية ليست مجرد حالة مرضية، بل تدمير للشعور بالأمان والعالم والذات. الماضي لا يُطوى، بل يعود ككابوس، والمستقبل يُمحى.
3. الأطفال كضحايا ف، الطفل لا يخسر اللعب فقط، بل يخسر أدوات تشكيل الذات. يولد لا في البراءة بل في النجاة. يُربّى على القلق لا على الأمل.
4. الشيخوخة تحت القصف، و الذاكرة عبء، فالكهل يتحوّل من حكيم إلى منفي داخل ذاته. يفقد القدرة على أن يكون (راويًا للتاريخ) ويغدو مجرد بقايا زمن لا يجد له مكانًا.
5. الأعراض الجسدية كصدى لزلزال داخلي الصداع، الأرق، فتسارع النبض ليست أمراضًا بل رسائل من الجسد عن انهيار الثقة بالعالم.
6. المجتمع كجسد مثقوب بالغياب ليست الصدمة فردية. المدينة تصبح طاردة، الجار غريبًا، والعلاقات عبئًا. الجميع يعاني من غياب المعنى.
7. نحو شفاء يتجاوز الطب: إلى إعادة المعنى لا علاج دون فهم. المطلوب سردية وطنية جديدة، تعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والوطن، بين الجرح والحياة.
ثالثاً: في ختام الندوة، قُدّمت توصيات دقيقة ، تمثلت في إن أهم ما خرجت به هذه الندوة، بمداخلتي المهندس عادل خلف الله والدكتور جمال سرا لختم الجاك، ليس فقط تشخيص الكارثة، بل إعادة تأطيرها كأزمة معنى، وكمسؤولية تاريخية تتطلب من الجميع تجاوز مجرد رد الفعل إلى فعل مؤسّس. والعمل الى الإيقاف الفوري غير المشروط للحرب ، و لقد اتضح أن إعادة البناء ليست مهمة تقنيين، بل مشروع إنساني-أخلاقي-سياسي شامل.
1. في المحور الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لا بد من تحوّل جذري في فهمنا لمفهوم الدولة، بحيث تصبح أداة للعدالة لا القهر، وللتنمية لا الغنيمة. نحتاج إلى سياسات عامة تُعيد الثقة: في الملكية، في العمل، في المستقبل. ويجب أن تتأسس هذه السياسات على مبادئ الاقتصاد الاجتماعي التضامني، لا السوق النيوليبرالي المنفلت. وكذلك إنشاء صندوق سيادي لإدارة الموارد الطبيعية (كالذهب أو الأراضي الزراعية) تحت إشراف هيئات محلية لمنع النهب، مع توجيه عائداته لتمويل مشروعات صغيرة تُدار بالنقابات المحلية.
2. على المستوى البيئي، فلابد من تضمين البيئة في كل خطة للإعمار، لا كإضافة، بل كبنية تحتية للوجود. إعادة تأهيل الأراضي، حماية النيل، إيقاف التصحر، كلها خطوات لا تعيد الطبيعة فقط، بل تُعيد للإنسان صداقته مع الأرض. واعتماد سياسة العدالة البيئية التي تربط بين إعادة التشجير وتوفير فرص عمل، عبر مشروع وطني لزراعة (10) ملايين شجرة، بإشراف الشباب والنازحين.
3. المحور النفسي والاجتماعي: فإن أكبر خطر هو التطبيع مع الاضطراب. نحن بحاجة إلى (برنامج وطني للعافية النفسية)، يستهدف الأطفال والنساء وكبار السن، ويستند إلى مراكز دعم مجتمعي، وبرامج ثقافية وفنية تعيد إنتاج الحكاية السودانية من موقع الشفاء لا الضحية فقط. وإطلاق منصات حوار مجتمعي، تجمع بين الأطباء النفسيين وشيوخ القبائل والنساء، لصناعة عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف المواطنة دون انتماءات قبلية. بالإضافة الى دمج العلاج بالفنون والمسرح في المناطق المنكوبة، لمساعدة الأطفال على استعادة السردية الشخصية المفقودة عبر حكايات تراثية تُعيد تعريف الهوية.
4. المرأة كفاعل مركزي في إعادة البناء: لا يمكن فصل إعادة بناء الثقة الاجتماعية عن الدور المحوري الذي تلعبه النساء السودانيات، خاصة في المجتمعات الريفية والنازحة، حيث يُعدّن حجر الزاوية في الحفاظ على التماسك الأسري والاقتصادي. ففي ظل انهيار المؤسسات الرسمية، برزت نماذج ناجحة لتعاونيات نسائية قادت مشروعات إنتاجية صغيرة (كالزراعة الأسرية أو الحرف اليدوية)، لم توفر فقط مصدر دخل، بل أعادت تعريف العلاقات المجتمعية على أساس التضامن بدلًا من الصراع. هذه التجارب تثبت أن تمكين المرأة اقتصاديًّا وسياسيًّا — عبر تمكينهن من إدارة الموارد المحلية أو المشاركة في صناعة القرار — يُعيد بناء العقد الاجتماعي من القاعدة، ويُحيي فكرة الملكية المشتركة كبديل لاقتصاد النهب. إذًا، أي حلول مستقبلية يجب أن تبدأ بدعم هذه المبادرات وتوسيع نطاقها، مع ضمان تمثيل النساء في هياكل إدارة الأزمات، لأنهن الأكثر قدرةً على تحويل الجراح إلى أدوات شفاء.
5. تفاعل الحضور: أسئلة تُضيء المسار: لم تكن الندوة مجرد حوار بين خبراء، بل تحولت إلى منصة تفاعلية حيث طرح الحضور — من نشطاء وأكاديميين وسياسيين — أسئلةً حرّكت المياه الراكدة.. هذه المداخلات كشفت أن الأزمة، رغم قسوتها، فتحت بابًا لأسئلة وجودية لم تكن مطروحة من قبل، مما يؤكد أن الحلول يجب أن تُبنى ليس فقط من فوق (بالسياسات)، بل من تحت (بالحوار المجتمعي). وهذا ما يعيدنا إلى جوهر الندوة: أن الحرب، بكل دمارها، قد تكون فرصةً لولادة وعي جديد، شرط أن نُصغي للأصوات التي تُنبت الأمل في قلب الرماد.
خاتمة: ما أثارني كقارئ في هذه الندوة ليس فقط فداحة ما قُدم، بل جرأته على تحويل كارثة الحرب إلى فرصة تأمل وولادة مشروع جديد. السؤال اليوم ليس كيف نعيد الدولة، بل كيف نبتكر إنسانًا جديدًا قادرًا على حمل فكرة الدولة؟ وأن الكارثة السودانية الراهنة لا تكمن فقط فيما دمّرته الحرب، بل فيما كشفته عن هشاشة ما كان يُظنّه متينًا. الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، والهوية، كلها لم تكن قائمة على أسس حقيقية، بل على أعمدة ضعيفة. لكن في هذا الانكشاف تكمن الفرصة. فكما أن الجسد لا يلتئم إلا إذا نُظّف الجرح، فإن السودان لن يتعافى إلا إذا واجه ماضيه ومآلاته بشجاعة فكرية وجماعية. فالرهان ليس على الطبقة السياسية وحدها، بل على وعي المجتمع، وعلى المثقفين، وعلى النساء والشباب والفنانين والنقابات والتنظيمات العمالية والحرفيين وغيرهم . أولئك الذين يصنعون المعنى حين تنقطع اللغة.
فالمطلوب اليوم ليس مجرد (عودة الحياة)، بل (ابتكار حياة تستحق العودة). فالطريق الجوهري للحياة التي من حق الانسان السوداني ان ينعم بها هي في بناء الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير.
Leave a Reply