الحرب السودانية على ضوء مأثور القول

بقلم: ماجد الغوث

الحرب، بطبيعتها الكاشفة، لا تمرّ مرور العابر، بل تفرض نفسها بوصفها لحظةً وجودية قاسية تعيد صياغة العلاقة بين الفرد وذاته، بين المجتمع وتاريخه، بين الدولة ومعناها. في عمق الخراب، يُستَفزّ العقل الجمعي للتأمل في سؤال: ما الذي يُبنى بعد أن يُهدَم؟ وهل يمكن للحرب، بكل ما تحمله من رعب وانهيار، أن تكون مدخلاً إلى وعي جديد، يُجبرنا على إعادة تقييم أولوياتنا وقيمنا، لا فقط في السياسة، بل في معنى الوجود نفسه؟

في التراث الفلسفي الإسلامي، لا تُرى الحرب فقط بوصفها نزيفًا في الأرض والدم، بل بوصفها صدمة تُحرك ساكن الوعي، وتدفع إلى التجدد. عند ابن خلدون، الحرب ليست فقط صراعًا قبليًا، بل محرّكًا لتحولات اجتماعية كبرى، تُنتج هوية جديدة ووحدة جماعية، تسبق نشوء الدولة وتصوغ قواعد التمدن. وعند الشاطبي، تُفهم الصراعات بوصفها اختبارًا عمليًا لمقاصد الشريعة، إذ تدفع المجتمع إلى ابتكار أساليب جديدة لصون النفس والعقل والدين والنسل والمال، أي أنها تخلق شروطًا لإعادة البناء في قلب الانهيار. أما الفارابي، فكان ينظر إلى الصراع كآلية لتحريك الجمود في البنية السياسية والاجتماعية، محفزًا لإعادة النظر في شكل المدينة الفاضلة ومَن يستحق قيادتها.

الغزالي، من جانبه، رأى في المحن الكبرى – ومنها الحروب – اختبارات روحية تُجبر الإنسان على تفكيك أوهامه، والعودة إلى جوهر التوكل والمعنى. وهي، بحسب ابن سينا، صدمات معرفية قد تفتح الباب أمام ترقٍ روحي يتجاوز البُنى الظاهرة نحو أسئلة أكثر عمقًا في الهوية والمصير. وتبلغ هذه الرؤية ذروتها عند رابعة العدوية، حينما تحوّل الفقدان والحزن العميق – الناجم عن الحرب أو الاغتراب – إلى طريق في حب الله، لا بوصفه مهربًا بل غاية للمعنى.

من هنا، لا تكون الحرب نهاية، بل بداية مشروطة بالتأمل والتجاوز. وهذا ما أدركه حزب البعث لحظة اندلاع كارثة 15 أكتوبر 2023 في السودان. إذ لم يتعامل مع الحرب باعتبارها مجرد واقعة عسكرية أو صراع نخبوي، بل باعتبارها ارتجاجًا في الروح الوطنية، ومحنة لا بد أن تُجابَه بالعقل والمبدأ والفكر، لا بالشعارات الفارغة. فانطلقت مبادراته في سياق يتجاوز الخطاب السياسي التقليدي، ليخاطب الفطرة الإنسانية والعقل الجمعي ويستنهض طاقة الشعب، لا بوصفه متفرجًا على المأساة، بل بوصفه المولّد التاريخي لحلّها.

لا يمكن إيقاف الحرب بالصدفة التاريخية، بل بوعي تاريخي يمسك زمام المبادرة، ويقف على أطلال التمزق ليرى المستقبل. إن المهمة التي يطرحها الواقع لا تتعلق فقط بوقف إطلاق النار، بل بإعادة بناء الإنسان السوداني ذاته: عبر نزع الغشاوة التي تغطي بصر طرفي النزاع، وتحطيم الروايات المغلقة، وإعادة صوغ لغة التفاهم من داخل جروح الوطن نفسه. فالوطن لم يعد يتحمل مزيدًا من التشظي أو وهم التعايش اللحظي، بل بحاجة إلى مشروع بناء ديمقراطي شعبي، يُستأنف من القاعدة الاجتماعية لا من قمة الهرم.

ثورة ديسمبر 2018 لم تكن لحظة غفلة، بل ثمرة نضال ثلاثين عامًا من المعاناة، راكمت وعياً جماهيريًا ناضجًا، لكن حرب الجنرالين كشفت هشاشة البنية السياسية في السودان، وأعادت امتحان جميع القوى الوطنية أمام سؤال: من أنتم حقًا؟ وهل تملكون الجرأة لاجتراح المستقبل، أم أنكم جزء من هذا الماضي العالق؟

طرَح البعث، عبر صوت نائب أمين السر عثمان أبو راس، مراجعة جذرية لمسار الدولة السودانية من 1956 حتى 2019. هذه المراجعة لم تكن اجترارًا للتاريخ، بل مساءلة قاسية لنا جميعًا أمام مرآة أجيال لم تولد بعد. علينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاكم خصومنا، فإما أن نُمسك زمام الانعطاف التاريخي لصياغة صفحة جديدة من الإنبعاث الوطني الحضاري، أو نستسلم للغرق في هاوية التقسيم، حيث لا يبقى شيء يمكن التفاوض عليه.

الوحدة الوطنية لا تعني التحالف الشكلي بين القوى، بل تعني اندماج الإرادات في مشروع وطني واحد، يعيد المعنى للديمقراطية لا كشكل مؤسسي بل كروح للعمل الجماعي القائم على العقل والمصلحة الشعبية. إن السودان لم يحصل على استقلاله إلا بوحدة قواه الوطنية، ولم يُسقط أنظمته الاستبدادية إلا حين توافرت أدوات التنظيم الجماهيري الشعبي، من الفلاحين إلى العمال إلى الطلاب إلى المرأة إلى المثقفين، وهم عماد الأمة وروحها.

لكن هذه الوحدة لا تُبنى فقط على حسابات السياسة، بل على صعيد أعمق: في الوعي، في القيم، في وجدان الجماعة. على الفكر السياسي والاجتماعي أن يعيد النظر في مقولاته، لاكتشاف مناطق الالتقاء بدل اجترار الانقسامات. فالوحدة لا تُفرض، بل تُبنى، والبناء يبدأ حين نُعيد الثقة بين الجماهير والنخبة، بين الفعل والخطاب، بين الثورة والدولة.

ثمة بديهة تاريخية يجب التأمل فيها: الحروب تُعري الفراغات في جسد الأمة، لكنها أيضًا تمنح الفرصة لتشكيل لحظة تأسيسية جديدة. وما بعد الحرب يجب أن لا يكون مجرد ترميم للقديم، بل قطيعة معه. فإن لم تفتح نهاية الحرب بابًا لتحول جذري في بنية المجتمع السوداني – من الفوضى المقززة إلى النظام الواعي – فإننا نكون قد ضيعنا فرصة الوعي الثانية.

الحرب ليست فقط فشل السياسة، بل فشلنا في أن نعيش معًا كجماعة سياسية متخيلة. وإذا لم تكن نهايتها بداية لزمن أخلاقي جديد، يتجاوز النرجسية والانتهازية والاستبداد، فإننا سنكون بصدد إعادة إنتاج أسباب الحرب نفسها بوجوه جديدة.

إن الطريق نحو سلام دائم يمر عبر المصالحة مع الذات، والاعتراف بالمصلحة الشعبية، وصوغ مشروع وطني يرتقي إلى تضحيات الذين خسروا كل شيء. فهؤلاء لا ينتظرون خطبًا ولا بيانات، بل فعلًا تاريخيًا يُعيد لهم المعنى ويُعيد للوطن هيبته.

وهكذا، لا يعود السؤال فقط: كيف نوقف الحرب؟ بل: ماذا نفعل بالسلام إن تحقق؟ هل نعيد إنتاج التشرذم، أم نبني أمة جديرة باسمها؟ والجواب، كما كان دومًا، عند الشعب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.