
أحمد علوش
منذ قيامها، أثارت ثورة السابع عشر الثلاثين من تموز المجيدة حفيظة قوى الاستعمار والعدوان، وبدأت الحرب عليها منذ اللحظة الأولى، فهي ثورة مدنية بيضاء لم تعتمد كغيرها من الانقلابات في الوطن العربي، التي اتسمت معظمها بالعنف وإراقة الدماء، كما أنها طرحت شعار إعادة العراق إلى موقعه الطبيعي والطليعي من قضايا أمته العربية وعرفت نفسها بأنها الرد على هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، كما اعتبرتها بداية مسار جديد لتقديم البعث بصورته المبدئية والأصيلة أمام قوى الردة، التي سرقت اسم هذا الحزب وأرادت تشويه صورته ومواقفه وتزييف مبادئه من خلال ما جرى في 23 شباط 1966، الذي كان استهدافًا للحزب وأهدافه ومبادئه، التي هي مبادئ وأهداف الأمة العربية المجيدة، والمعبر عن مشروعه النهضوي مستلهمًا الماضي والانطلاق من الحاضر نحو المستقبل، لذلك كانت الحرب على هذه الثورة العملاقة متعددة الأوجه والأساليب، استخدمت فيها قوى الشر والعدوان كل أدواتها الداخلية في مرحلة، والإقليمية في مرحلة لاحقة، ودخولها الحرب مباشرة في مراحل أخرى.
وبين التريث والتحفز كانت هذه القوى تكيد للتجربة الجديدة وتحاول توفير الظروف والفرص للانقضاض عليها، ففي العام 1969 وجهت الثورة أقسى ضربة لركائز العدوان على أرض العراق بإعدام الجواسيس، وهي التصفية الكاملة لأوكار الماسونية في العراق مما عزز خشية قوى العدوان من مسار الثورة وبدأت تخطط لإشغالها واستنزافها تمهيدًا لضربها والقضاء عليها، وكانت هذه الفرضية تتعزز كلما حققت الثورة إنجازًا إن كان على المستوى الوطني العراقي أو على المستوى القومي العربي.
نجاحات الثورة تعززت مع حل المسألة الكردية وبيان في 11 آذار التاريخي للحكم الذاتي عام 1970، ومن ثم تأميم النفط العراقي كخطوة أساسية في الاستقلال الاقتصادي، الذي يعزز ويعمق الاستقلال السياسي، وكذلك قيام الجبهة الوطنية، وبما أعقب ذلك من إنجازات إن كان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو العسكري، الذي جعل العراق في مرحلة لاحقة موقع الاقتدار المتقدم في الأمة.
وترافقت إنجازات الثورة في المجالين الزراعي والصناعي متوجة ببناء القوة العسكرية ومن ثم التصنيع العسكري لاحقًا مع خطوات على المستوى القومي وفي مقدمتها قضية فلسطين ولا مجال في هذا الموضوع للاستطراد على هذا الصعيد، فالكل يعرف كيف ترجمت الثورة المجيدة مواقف البعث المبدئية من القضية الفلسطينية الذي اعتبر فلسطين القضية المركزية وربط بين الوحدة والتحرير، وتوجها القائد صدام حسين على منصة الشهادة وهو يؤكد فلسطين عربية من النهر إلى البحر.
ومع كل خطوة كان يخطوها العراق على طريق النهوض الشامل كانت قوى الاستعمار والعدوان تصعد أساليب حربها، التي بدأت بدفع حليفها الإقليمي آنذاك (شاه إيران) في محاولة ضرب الثورة من خلال تحريك ودعم المتمردين الأكراد، الذين دفع لاحقًا عرشه بعد أن أدرك عجزه عن إيذاء العراق ووقع اتفاقية الجزائر عام 1975 لتستبدله بنظام الملالي الذي بشر به بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق عام 1977 الذي دعا إلى إقامة نظام ديني في إيران ليكون سدًا في وجه التمدد السوفياتي من خلال أفغانستان، وفي مواجهة القومية العربية في العراق، وقد حدث ما حدث ووصل نظام الملالي إلى السلطة عام 1979 ليبدأ عدوانه على العراق، الذي استمر مدة ثمان سنوات إلى أن تجرع السم وأقر بالهزيمة ورضخ لوقف الحرب.
وبعد أن فشلت الأداة الإقليمية بوجهها الشاهنشاهي والديني أدركت الولايات المتحدة الأميركية، أن الخيارات ضاقت أمامها إلا خيار تدخلها المباشر مجيشة كل قوى الشر والعدوان في العالم، وموظفة أدواتها من النظم العربية في عدوان كانت صفحته الأولى في العدوان الثلاثيني عام 1991 وما رافق ذلك من حصار وتجويع واعتداءات مستمرة ومتكررة بلغت ذروتها في العدوان الأميركي على العراق وغزوه واحتلاله عام 2003، الذي أدى إلى إسقاط الحكم الوطني وما آلت إليه أوضاع العراق في ظل تحالف أميركي- إيراني دمر مقوماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ونقل أبناء العراق وبعد العز الرفاهية إلى الذل والعوز والجوع والفساد والفصول تتوالى.
أما على المستوى القومي فإن إنجازات العراق ومواقفه كانت شاهدًا ودليلًا على عظمة هذه التجربة، التي قدمت أنموذجًا متقدمًا وعصريًا لصورة أمتنا المجيدة كما يراها البعث ويناضل من أجلها، من خلال ما قدمه من مساعدات لكل الأقطار العرية، التي تعاني، ومن خلال استقبال سنويًا آلاف الطلاب، وفي رؤية قومية تدفع الأذى عن العرب وتحضن الأمة في وجه الأعداء وبالأخص العدو الصه-يوني، ودور الجيش العراقي في حرب تشرين أول 1973 ليس بحاجة إلى شرح أو توضيح عندما حمى دمشق من السقوط، ناهيك عن تصديه لمحاولات تمزيق السودان، ودفاعه عن عروبة موريتانيا ودوره في تحقيق وحدة شطري اليمن، وكان الشهيد القائد صدام حسين دقيقًا وصائبًا عندما توجه بسؤال إلى الحكام العرب عما إذا كان وضعهم الآن أفضل (في حينه) أم عندما كان العراق قويًا ومقتدرًا.
وسبق أن أشرنا إلى موقفه من القضية الفلسطينية وهو، الذي تمسك على الدوام بتحرير فلسطين كل فلسطين، فصدام حسين هو القائل فلسطين في قلوبنا وفي عيوننا إذا استدرنا إلى أي من الجهات الأربعة، وليس أدل على صلابة هذا الموقف وثباته مما كشفه محمد مهدي صالح وزير التجارة العراقي إبان الحكم الوطني، وكذلك حامد يوسف حمادي وزير الثقافة في حينه من رفض صدام حسين عرضًا صه-يونيًا كان أن يسلم الكيان الاغتصابي بزعامته للمنطقة مقابل تخليه عن القضية الفلسطينية، وكيف كان رده حاسمًا وجازمًا ونهائيًا وأن لا أتراجع عن ذلك أبدًا.
صدام حسين فلسطيني حتى العظم، وعاشق لفلسطين حتى النخاع وهو، الذي تمنى إبان انتفاضة الأقصى عام 2000 لو أنه كان واحدًا من الاستشهاديين على أرض فلسطين.
لقد قدمت ثورة السابع عشر –الثلاثين من تموز المجيدة عام 1968 البعث بأبهى صوره، وجسدت صورة المجتمع العربي الجديد، الذي يسعى البعث إليه وكانت في كل إنجازاتها وخطواتها أنموذجًا للانبعاث والنهوض استلهم الماضي في خدمة الحاضر على طريق المستقبل.
ثورة 17-30 تموز المجيدة تعيش في قلوب كل العراقيين وضمائر كل العرب، الذين يؤمنون بقدرة هذه الأمة واقتدارها إذا وجدت القيادة التاريخية، وقادها الحزب الرسالي، حزب البعث العربي الاشتراكي، وشعب يسير بثقة وعزم خلفهما، وستظل ثورة 17-30 تموز المجيدة مشعل نور في حياة المشرق وستظل نور الانبعاث في الزمن المظلم.
Leave a Reply