
والفناء، حيث تحيا بلا قِيمة، وتموت دون أن تُجرب المخاوف وتقاوم.
والوطن حيث تحيا بكرامة …
حسن بكري
قريبًا بعون الله، ولا أزال أتأرجح بين النشر التقليدي (الورقي) أو تحويل المجموعة لقصص صوتية معالجة بصريًا…
المهم أنني فرغت تَوًّا من كتابة قصص قصيرة، حاولت عبرها أن أوثق لحرب الخامس عشر من أبريل والانتهاكات المصاحبة لها.
جاءت الفكرة حين توقفت عن مسار آمن لظروف خاصة، وقد وفقني الله عز وجل عبره، وبالبثوث المباشرة، التي تجاوزت 700 ساعة بث، في توثيق انتهاكات الحرب وعكس معاناة شعبنا مع دعم المطابخ والتكايا.
جاءت الفكرة لنقاوم تزييف الواقع بطرائق مختلفة، وحيث إن الأحاجي لا تموت، وجدت في القصص ملاذًا لا يتوفر في المقالات والتقارير.
فكان زفاف أحمر…
—
عيون زرقاء..
القمر يضيء عتمة المكان، في جوفه شيء، تتخيله حليمة خارطة السودان، تنام على ظهرها ووجهها للسماء.
تمد يديها، تغمسهما في جوف القمر، وتُخرج الخارطة، تضعها على صدرها وتنتصب واقفة.
ينزل القمر، وتسترق نجمة السمع لحديث حليمة، وتحجبهم سحابة…
كل شيء سينتهي مع الفجر، من ذاك الجانب، ليخرج الآن من يشاء.
“قدّموا الأطفال والنساء، لا رحمة في صدور الجنجويد، لكنهم سيسعون لغسل صورتهم أمام الإعلام باستقبال الفارّين من المعسكر…
أخبروهم بأننا قد منعناكم من المغادرة، وكنا نتخذكم دروعًا بشرية، وسيسعدون كثيرًا بهذا الكلام، وفيه قد تكون نجاتكم.
ومن سيبقى، عليه الوعي بحتمية الهلاك، وأن نُقتل أهون بألف مرة من الوقوع في أسرهم، هذه هي الاحتمالات.
سننتصر بضعفنا، ويُهزمون بقوتهم، أرواحنا ستحلّق شامخة جنبًا إلى جنب مسيراتهم، ولتَشهد بذلك السماء.”
—
زفاف أحمر..
الطرقات هادئة، وكل شيء بدا عاديًا، سوى بعض الشائعات التي تطوف بالأسافير، والصبية الذين يطوفون الأحياء بالنوبة والنحاس، يحثون الناس على السحور.
كانت القلوب طبولًا يعلو إيقاعها ولا ينخفض.
تُخفي الخرطوم رأسها في رمال المبعوث الأممي كنعامة، تُطمئن نفسها بالعتمة، تُوهم نفسها بزوال الخطر حيث يغيب الشوف.
لا تذكر الأم ما حدث، غير أن ملامح المدينة غطاها صمتها، والسكات، وأحد الجنجويد يخلع أساورها برفق، ويردد:
“ما تخافي يا أمي، نحن ما عندنا مشكلة مع المواطنين.”
ثم ينزع هاتفها الجوال، ومنصور جالس على الأرض.
ذاك كل ما علق في ذاكرتها.
—
أثينا..
تذكّرت “تمبول”، محطة الحلم الأولى، ثم “الجريف غرب”، الحي، الذي عاشت فيه لأشهر قليلة، قبل أن تنتقل إلى “ديوم الخرطوم”، وتعمل بالمقهى…
تتذكر الآن بوضوح أيادي اختصاصي العيون تلمسها، وتجرّب أول تجربة تحرش من “مثقف” يقول إنها تُشبه آلهة روما القديمة، ويعترض على اسم “جميلة” لأنه “مكرر” ولا يليق بعذوبتها، فيُطلق عليها اسم “أثينا”.
تشتكي إحداهن من نزيفها، وتطالب العسكر بإخراجها حتى لا تتّسخ الزنزانة. وأثينا لا تسمع لكل ذلك، ولا تشعر بنزفها أو الألم.
تنمو شجرة جهنمية في الزنزانة الصغيرة، وزهرها الأحمر يغطي المكان. وبينما تشتكي أخرى من رائحتها، كانت هي تشمّ عطر الريحان يخرج منها، ويفوح المكان المظلم بالبخور.
ترعد السماء بالخارج، ويخرج زيوس من البرق، يُلوّح لأثينا، فتضغط هي على المسبحة، معلّق في طرفها الصليب، وتبتسم للإله البعيد.
—
الترعة لا تخون..
يبتسم فتح الرحمن بفتور، ويرد:
“بتوريني إنت، الموية بترجع كيف؟ قطعت يومين؟ هي ما قاطعة ليها سنة؟
دا عكار دميرة عديييل… تحسها غسلت ذنوب القدّام وجاتنا عكرانة، وحيلها ميت بالطمي”.
يضرب بغصاه بعضها، قائلًا:
“خير، اللهم اجعله خير”.
وقبل أن يُكمل دعوته، يصرخ “هلفوت العمدة”:
“هوووي يا ناس! بقولوا الجيش انسحب والدعّامة دخلوا ود مدني!”
يستفيق بعد أن عذبوه وفقد الوعي على الفوضى من حوله، وقد حلق الطيران الحربي للجيش ليُكمل الفاجعة، ويتوج خيبة انسحابهم بصواريخ كأنما ألبسوها واقيًا ذكريًا، يخافون على الجنجويد من التناسل، ولا تسقط إلا على رؤوس المساكين.
—
فردوس زهرة قُطفت في الجنينة..
يردد قائدهم:
“إنهم لو كبروا، لن تكون فيهم بركة، ولن يأتي منهم سوى الشر”.
ولا تفهم لماذا يعترض جنجويدي على الشر، وهو وجه من أوجهه، بل هم الشر المطلق.
كما تُسرق جوالات السكر والدقيق من المحلات ويتقاسمونها بينهم، قسّم أحدهم فردوس إلى أجزاء:
فرحها والضحكات في ناحية، حزنها والدموع في ناحية أخرى، أمانيها في غير مكان، وجسدها غنيمة.
كان يردد:
“دي حقتي”،
ليُبعد جماعته عنها، لا ليحميها، إنما ليلتهمها وحده.
ولا تسأل لماذا خلق الله الجنجويد.
هم كما الأفاعي والعقارب. ونظام الحكم الذي صنعهم، له في خلقهم حكمة، وله فيهم شؤون!
حملوها معهم، ويدركون من هرب من المدينة، كأنما أرادوا أن تشاهد أهلها يموتون قبل أن تموت هي بالنجاة، وتحمل في جوفها كل تلك المشاهد.
ترفع غطاء الرأس لتُغطي شعرها باكية، بينما الكون بكامل ملامحه يتبرّج.
غطّت شعرها متمسكة بالعفاف، ويجرب فيها صبي الجنجويد فحولته مرة ومرة ومرات.
كانت زاده:
كلما جاع، قطف منها وردة.
وإذا عطش، تجرّع من دموعها.
—
مسار آمن..
ود مدني بكاملها أخذت قرارًا بالخروج. لا يهم إلى أين، والأهم ألّا ينتظروا الجنجويد، لا سيما من ذاقوا قهرهم في الخرطوم.
رد خالد على هاتفه بحسرة، وأخبر شقيقته أنه ينتظر انتهاء والدهم من جلسة الغسيل، وقد أرسل صابر إلى البيت ليُعين والدتهم في تجهيز الأغراض للرحيل.
قال لها:
— سنذهب إلى بورتسودان، ويُستحسن أن تبدئي إجراءات الزيارة العائلية. هذا الأمر يمضي نحو تعقيد أكثر، ووالدك لا يحتمل كل هذا يا سُهى.
وبينما يودعها، سمع أصوات الرصاص يتخللها التكبير والتهليل، فخرج ليستبين ما يحدث.
وجد أفرادًا من جهاز الأمن يُطلقون الأعيرة النارية في الهواء ابتهاجًا بدحر المتمردين، ويُخبرون الناس بأنها مجموعة صغيرة تائهة بلا قيادة، وقد استدرجها الجيش بخطة محكمة، وانتهى أمرهم بين قتيل وأسير.
خرج الناس يحتفلون في الشوارع، وشيء ما في الدواخل يشعرهم بأنه فرح عابر.
سيدركون بعد ساعات أن تلك الاحتفالات كانت خطة الجيش لبث طمأنينة زائفة، حتى لا يخرج الناس وتُغلق الطرقات، مما قد يعيق انسحاب الجيش والأجهزة الأمنية.
في ساعات الصباح الأولى، كانت ود مدني كمراهقة فُضّت بكارتها عنوة.
انسحب الجيش تاركًا المدينة وأهلها للجنجويد، الذين دخلوها مهللين ومكبرين.
ولا تدري لماذا يُقحم الطرفان المتحاربان اسم الله عز وجل في حربهم، ويُطلقون أعيرتهم النارية عشوائيًا في صدور الناس والبيوت والهواء.
Leave a Reply