
بقلم: الطيب صالح
تقديم: أحمد إبراهيم أبوشوك
#مختارات_الهدف
تقديم
يضيء هذا النَّصِّ بذكريات حميمة وصور نابضة بالحياة عن شخصيَّة سودانيَّة استثنائيَّة هي محمَّد أحمد محجوب (1908-1976)، الشَّاعر والمفكِّر والسِّياسيُّ، الَّذي جمع في سيرته بين قمَّة المجد الأدبيِّ وذروة المجد السِّياسيِّ، دون أن يتخلَّى عن نبله وصفاء سريرته. يبدأ الأستاذ الطيب صالح مقاله بسرد أدبي عن إعجاب محجوب العميق بشعر المتنبِّي، الَّذي رأى فيه قمَّة الإبداع والسُّموِّ، ويقارن بين الاثنين مقارنة دقيقة تكشف تشابهًا في الطُّموح وسموِّ النَّفس، واختلافًا في طبائع الشَّخصيَّة ونظرتها إلى الحياة. ثمَّ ينتقل الأستاذ الطيب إلى سَّر سيرة محجوب العمليَّة؛ نشأته وولعه بالأدب وإسهاماته المبكِّرة في الصِّحافة الفكريَّة السُّودانيَّة، ثمَّ تدرجه في سلك القضاء والسِّياسة حتَّى تبوَّأ رئاسة الحكومة السُّودانيَّة، وتألُّق نجمه في مؤتمر القمَّة العربيَّة بعد هزيمة 1967. ولا يكتفي الأستاذ الطيب صالح بتوثيق السِّيرة العامَّة، بل يضيف إليها لمحات شخصيَّة وإنسانيَّة نادرة، فيستعيد لقاءاته الخاصَّة معه في الدِّنمارك ولندن، تلك اللَّيالي العامرة بالشِّعر والحديث العميق، حيث كان محجوب، رغم مكانته السَّامقة، ينصت إلى جلسائه بمحبَّة وصفاء. يبرز النَّصُّ قدرة محجوب الفريدة على الجمع بين المتناقضات: شاعريَّة وواقعيَّة، تواضع وكبرياء، بساطة وعمق، كما أنه يجعل القارئ يشعر أنَّه إزاء إنسان من طينة خاصَّة قلَّما يجود الزَّمان بمثله. إنَّه نصّ لا يروي سيرة فرد فحسب، بل يلقي الضَّوء على حقبة كاملة من تاريخ السُّودان الحديث وحركة الفكر والأدب والسِّياسة فيها، وعلى مثال لرجل عاش صادقًا مع قناعاته، غزير العطاء، عميق التَّأثير، رحل تاركًا في النُّفوس أثرًا لا يزول. وعليه آمل أن لا يفسد هذا التقديم المتواضع على القراء الفطناء قراءة النص البديع كاملاً؛ ولكلٍ تقديره لمواقف محجوب السياسية.
النص الكامل
محجوب الشَّاعر
” قالوا إنَّ أبو العلاء المعرِّي كان إذا قرأ لأيّ من الشُّعراء قال، قال فلان، حتَّى إذا قرأ للمتنبِّي قال (قال الشَّاعر) إمعانًا منه في تعظيمه، وكان ” محمَّد أحمد محجوب ” شديد الإعجاب بالمتنبِّي، لا يرى أنَّ شاعرًا يدانيه في سموّ مرتبته، وكنت أحيانًا أعابثه، ونحن نقرأ له من شعره، فأقرأ شعر المتنبِّي، فيغتاظ، ويقول لي (يا أخي لماذا تريد أن تفسد علينا شعرنا؟ ) ، أي أنَّ كلَّ شعر يخبو إذا قيس بشعر المتنبِّي، وكنت أرى في ” محمَّد أحمد محجوب ” بعض وجوه الشَّبه بالمتنبِّي. كان يشبهه في نبله، وعلوَّ نفسه واكتفائه بذاته، وإنَّه يريد أن يترك في الدُّنيا دويًّا كما أراد المتنبِّي. . . إلَّا أنَّه يختلف عنه كلُّ الاختلاف في جوانب أخرى. فقد كان محجوب معتدًّا بنفسه دون تكبر، خلاف المتنبِّي، وكان محجوب رضي النَّفس موطَّأ الأكتاف، إذ كان المتنبِّي مشاكسًا نفورًا، وكان المحجوب كريمًا مطلق اليد، إذ كان المتنبِّي بخيلاً مغلول اليد، فيما يروي مؤرِّخو سيرته. ولعلَّ أكبر ما بينهما من اختلاف، أنَّ ” محمَّد أحمد محجوب كان يرى أنَّ المجد الحقيقيَّ هو مجد الفكر والأدب والشِّعر، فأعطته الدُّنيا مجد أصحاب الجاه والسُّلطة، فأصبح وزيرًا ورئيسًا. أمَّا صديقنا أبو الطَّيِّب، فقد رحل من بلد إلى بلد، وتقلُّب بين حزن وسهل، وتنقُّل من ظهور النُّوق إلى ظهور الجياد، يبحث عن الوزارة والرِّئاسة، فأعطته الدُّنيا مجدًا شعريًّا لم يتح لأحد من قبله ولا من بعده. وأظنُّ أنَّه كان يفكِّر في عبث الحياة هذا، حين قال في معرض رثائه لجدَّته:
طلبت لها حظًّا ففاتت وفاتني. . . وقد رضيت بي لو رضيت بها غنمًا
أمَّا المحجوب فقد قال كالمعتذر حين شغلته هموم الحكومة عن الشِّعر:
أنا ما ابتعدت وإنَّما. . . دنياي تسرف في التَّجنِّي
أنا يا أمِّيَّة شاعر. . . والشِّعر مسبحتي ودَّني
قلت إنَّ محجوب كان راضيًا بقسمته في الحياة، إذ كان المتنبِّي ساخطًا على الدُّنيا الَّتي حرمته المكانة السَّاميَّة. وسوف تجد هذا واضحًا إذا قارنت بين رثاء المتنبِّي لجدَّته، وقد كانت له بمقام الأمِّ، ورثاء محجوب لأمِّه وقد كانت له أمًّا وأبًا. يقول المتنبِّي عن جدَّته: “ولو لم تكوني بنت أكرم والدًا. . . لكان أباك الضَّخم كونك لي أمَّا”.
الشَّاعر العظيم يقلب الدُّنيا رأسًا على عقب، ويحول الابن إلى أب، في صورة جريئة لم يسبقه عليها أحد. . .
أمًّا محجوب فإنَّه يرثي أمَّه بما هي أهل له دون زيادة أو نقصان، فقد كانت ابنة الأمير عبد الحليم أحد أمراء المهديَّة وفرسانها:
يا بنت طلَّاع النَّجَّاد وفارس. . . ذكراه خالدةً لغير فناء
ما كنت إلَّا من أبيك كريمةً. . . كانت ملاذ الضَّيف البؤساء
والجود فيك سجيَّة موروثة. . . قد عوز عن من وعن إيذاء
قد كنت صنوًا للرِّجال تأسو. . . أسوِّي
تجاهل هذا التَّصويب ترجمةً جرَّاح قريبها والنَّائي
ولقد رأيتك في الشَّدائد كلُّها. . . تبدين رأي السَّادة النُّجباء
محجوب والفجر
نعم، كان محمَّد أحمد محجوب، رحمه اللَّه رحمة واسعة، راضيًا، وقد حقَّ له أن يرضى. فقد جادت عليه الحياة بسخاء. كان ملء السَّمع والبصر. وقد قطع الطَّريق الَّذي انتهى به إلى رئاسة الوزارة في السُّودان بلا معاناة ولا عثرات، كان كلُّ شيء مهيَّأ له. كان نجمًا لامعًا منذ شبابه الباكر. درس الهندسة ثمَّ تحوَّل منها إلى القانون، وكان يكتب في مجلَّتي النَّهضة والفجر في الثَّلاثينيَّات، وارتبط اسمه خاصَّةً بمجلَّة الفجر الَّتي كان يحرِّرها المرحوم عرفات محمَّد عبد اللَّه، وهو أحد الرُّوَّاد في الحركة الفكريَّة في السُّودان. وأنت تقرأ اليوم مقالات محمَّد أحمد محجوب في تلك الفترة، وقد أصدرتها جامعة الخرطوم في كتاب بعنوان (نحو الغد)، فتجد مادَّة حكيمة رصينة، رغم حداثة سنِّ الكاتب، في مواضيع متنوِّعة مثل نهضة الأدب، ومكانة الأديب في المجتمع، والشُّعور القوميُّ، ومستقبل التَّعليم، والمثل العليا للحياة السُّودانيَّة، وبعض المقالات النَّقديَّة في الشِّعر والنَّثر إلى غير ذلك. يلفت النَّظر في هذه المقالات، وقد مضى على كتابتها أكثر من أربعين عامًا، أوَّلاً: سعة اطِّلاع الكاتب الشَّابِّ وشغفه بالعلم والتَّحصيل. وثانيًا: دقَّة إحساسه بواجبه كمصلح ورائد في المجتمع، وثالثًا: سعة صدره وتعقُّله وبعده عن التَّطرُّف والثَّورة. خذ مثلاً حديثه عن دور المرأة في المجتمع: “والأسرة قوامها المرأة والمرأة كما أسلفنا، جاهلةً في حاجة إلى التَّعليم لتعرف واجباتها، ولتعرف كيف تربِّي أطفالها وتغرس في نفوسهم حبَّ بلادهم وحبِّ الغير للإنسانيَّة عامَّة. وأنا عندما أقول بتعليم المرأة، لا أريدها لتعمل في الأسواق أو لتدخُّل ميدان الوظائف الكتابيَّة، ولكنِّي أريدها زوجةً مدبَّرةً، وأمَّا تعنى بتربية الطِّفل وترعى جسده وروحه وتتكفَّل بغذائه الجسميِّ والعقليِّ والخلقيِّ. ولا أريدها سافرةً متبرِّجةً، ولكنِّي أقول بمحافظتها على تقاليدها المرعيَّة، وعلى تقاليدها المرعيَّة وعلى تقاليد وتعاليم دينها الحنيف، وأريدها ملاكًا يرفرف في جلسات الأسرة وليالي سمرها، يؤثِّر وجودها على الرِّجال حتَّى يكفُّوا عن هذر القول ولغو الحديث، وحتَّى يحصروا همهم في تخيِّر الألفاظ وتنميق العبارات فلا يجرحوا شعورها. ” هذا، كما ترى، كلام معقول لا غبار عليه، ومع ذلك فهو ينطوي على دعوة بمثابة ثورة في ذلك الزَّمان! وفي المقال نفسه، يقول الكاتب [في] الأمانة والشَّجاعة: “ولكنِّي أراك أيُّها القارئ تسألني، وما هو المثل الأعلى للحياة السِّياسيَّة؟ وجوابيّ هو أنَّ السِّياسة لم يأت الأوان لنتحدَّث عنها، ما دامت مقدَّماتها من تعليم وحياة أدبيَّة واجتماعيَّة ناقصة وما دمت أنا مكتوف اليدين حبيس اللِّسان:
ولو أنَّ المجال مجال سرد لأطلقت اللِّسان بما يزيِّن
ولكنَّ اللِّسان له قيود. . . فمهلاً سوف تطلقه السُّنون.”
كتب محمَّد أحمد محجوب هذا، عام 1938، والاستعمار البريطانيُّ للسُّودان في أوج سطوته، وثورة 1924 العارمة الَّتي قام بها الجيش السُّودانيُّ ضدَّ الحكم البريطانيِّ، لم يمض عليها غير عشر سنوات. وربَّما يبدو لنا هذا الكلام اليوم أكثر حذرًا وأقلِّ جرأة، ولكن بوسعنا أن نتصوَّر وقعه على الحكَّام في ذلك العهد، ونقدِّر في هذا الإنسان المتميِّز تلك السَّجايا الفكريَّة والرُّوحيَّة الَّتي ظلَّ متمسِّكًا بها طوال حياته: الأمانة العقليَّة والشَّجاعة الأدبيَّة في حدود العقل والحكمة.
كان محمَّد أحمد محجوب في ذلك مجسَّمًا لما يحسبه السُّودانيُّون فضائل في طبعهم، لذلك فإنَّه قد بلغ ذروة مجده السِّياسيِّ في مؤتمر القمَّة العربيِّ الَّذي عقد في الخرطوم عامّ 1967، في أعقاب الهزيمة وكان أيَّامها رئيسًا لوزراء السُّودان، فتوهَّجت لديه تلك الفضائل السُّودانيَّة، بالإضافة لمزاياه الشَّخصيَّة الَّتي انفرد بها، مثل فصاحة اللِّسان وقوَّة الحجَّة والقدرة على إشاعة الودِّ في كلّ من يتَّصلون به. ولا أظنُّ أنَّ التَّاريخ مهمًّا أجحف في حقِّه، يستطيع أن ينكر عليه أنَّه كان العامل الفعَّال في جمع كلمة العرب في تلك المرحلة التَّعيسة من تاريخهم، وحفظ البقيَّة الباقية من كرامتهم، على أضعف الفروض. تحوُّل محجوب من الهندسة إلى القانون، فنبغ فيه، وأصبح واحدًا من كبار القضاء. ولمَّا اشتدَّ ساعد الحركة الوطنيَّة المناهضة للحكم البريطانيِّ استقال من منصبه وانضمَّ إلى حزب الأمَّة. ولمَّا استقلَّ السُّودان عام 1955 أصبح زعيمًا للمعارضة.
لقاء في الدِّنمارك
في تلك الأيَّام تعرَّفت به- لأوَّل مرَّة- . وكنت سائحًا في مدينة كوبنهاجن في الدِّنمارك، جئتها من لندن، حيث كنت أعمل وأدرس، وأنا أجلس في مقهًى في الميدان الرَّئيس، وإذا برجل فارع القامة، حسن الزِّيِّ، وسيم الطَّلعة، عرفته من أوَّل وهلة. جلس والأوروبِّيُّون الَّذين معه على مقربة مني. مضى في حديثه معهم ثمَّ التفت إليَّ وقال يا أخي أنت سودانيّ؟ حينئذ قمت وسلِّمت عليه فدعاني للانضمام إليهم. وقد ظلَّت ذكرى ذلك اللِّقاء واضحةً تمامًا في ذاكرتي طوال هذه الأعوام، فرغم الفارق بيني وبينه في السِّنِّ والمركز وعلوِّ صيته وتألُّق نجمه، فقد انصرف إلى تمامًا مهملاً بقيَّة جلسائه، وتحدَّث معي حديث النِّدِّ للنِّدِّ زهاء ساعتين في أمور السِّياسة والأدب، وقد كان حظي منهما في تلك الأيَّام أقلَّ من حظي منهما الآن. ولكنَّ تلك كانت سجيَّة في محمَّد أحمد محجوب، رحمه اللَّه، عرفتها أكثر حين تعرَّفت إليه أكثر فيما أعقب من السَّنوات. كان بسيطًا على نمط لم أعرف مثله في أحد غيره. وهي بساطة نابعة من تصالح كامل مع نفسه، وهي قناعة عفويَّة بتفوُّقه، بحيث يبدو لك أنَّه يفترض أنَّك سوف تسلِّم بذلك التَّفوُّق دون الحاجة منه إلى إقناعك، كان بسيطًا بهذه الطَّريقة، ولكنَّه لم يكن متواضعًا، ولم يكن مغرورًا أبدًا. وذلك نوع من البساطة يذكر للعباقرة والعظماء.
مرَّت السَّنوات بعد ذلك، وكنَّا نذهب لنسلِّم عليه، صلاح أحمد وأنا، كلَّما مرَّ بلندن. وقد رأينا قناعته، لندن الفخمة مثل السَّافوي والدُّورشستر- لأوَّل مرَّة- لهذا السَّبب. وكان يذكر لي ذلك اللِّقاء في كوبنهاجن. ولابدَّ أنَّني تركت في نفسه بعض الأثر. فقد حثَّني على العمل في وزارة الخارجيَّة، ثمَّ أرادني أن أكون مديرًا لمكتبه، وفي عام 1966، عمل على انتدابيّ من هيئة الإذاعة البريطانيَّة لأعمل مستشارًا في وزارة الإعلام السُّودانيَّة.
بعيدًا عن الحكم
ثمَّ استقرَّ به المقام في لندن منذ 1970 بعد تنحيته عن الحكم، وبسبب مرض القلب الَّذي أصابه في أواخر سنوات حياته. في هذه الفترة توثَّقت صلتي به. فقد كنَّا مجموعةً من محبِّيه لا تنقطع عن زيارته، منَّا الصَّحفيُّ القديم محمَّد خير البدويِّ الَّذي يعمل في هيئة الإذاعة البريطانيَّة، وعثمان عبد اللَّه وقيع اللَّه والشَّاعر الموهوب الَّذي يعيش في لندن منذ سنوات، وأحمد البديني رجل السِّياسة والعلم الَّذي يعمل الآن في اليونسكو في باريس. وكان ينضمُّ إلينا من حين إلى حين أصدقاؤنا الَّذين يفدون على لندن، مثل الأخ العزيز فتح الرَّحمن البشير، وإخواننا محمَّد عمر بشير، ومحمَّد إبراهيم الشُّوش، وجمال محمَّد أحمد وبشير محمَّد سعيد، وداوود عبد اللَّطيف وصلاح الدِّين هاشم، وغيرهم. كما كنَّا نسوق إليه كلّ من يزورون لندن من الشُّعراء والصِّحافيِّين والممثِّلين والفنَّانين من مختلف البلاد العربيَّة. وهكذا أصبحت داره في برنسس قيت، كما كانت داره في الخرطوم من قبل، ملتقى أدبيًّا وفكريًّا. وكنت تزوره فتجد عنده بعض رجال الحكم في السُّودان وغيره من البلاد العربيَّة، كما تجد بعض السَّاسة القدماء الَّذين أطاحت بهم عواصف التَّغيير في بلادهم، والسَّاسة المغامرين الَّذين قاموا بانتفاضات عسكريَّة لم تعمِّر طويلاً. كنت تجد عنده الشُّيوعيِّين، والإخوان المسلمين، والنَّاصريِّين والبعثيِّين. تجد عنده عرب الجزيرة، وعرب المغرب، وعرب الشَّام. وكنت تجد عنده- في أغلب الأحيان- الدُّكتور عبد الحليم محمَّد، ابن خاله وصهره، الَّذي كان بمثابة الأخ الشَّقيق، فقد كان محجوب وحيد أبويه، وألَّف معه كتاب (موت دنيا). والحقُّ أنَّ محجوب كان نسيج وحده في القدرة على التَّوفيق بين النَّقائض، ولا أظنُّ أنَّ أحدًا من ساسة العرب المعاصرين، وجد ما وجده محجوب من حفاوة بعد تركه السُّلطة، فإنَّ الأفئدة، كما هو معروف، تجتمع على صاحب السُّلطان، فإذا انقضى انفضوا عنه.
كنَّا نزوره مرَّةً في الأسبوع على الأقلِّ، محمَّد خير البدويِّ، وعثمان عبد اللَّه، وأحمد البديني، وأنا، وكنَّا كلُّ مرَّة نتناوب قراءة شعره. كان أحسننا قراءةً، عثمان عبد اللَّه وقيع اللَّه، فهو أيضًا شاعر مجيد، وقد عرف محجوب معرفةً طويلةً، ولم يكن يطيب له المجلس حتَّى يحضر. كنَّا نقرأ شعره فكأنَّنا نعرض عليه لوحات من أيَّامه الخوالي، فيستمع بكامل جسمه، وأحيانًا يهمُّهم وراء القارئ وأحيانًا يتمُّ القصيدة من ذاكرته، وأحيانًا يهتاج فيأخذ الكتاب ويقرأ هو القصيدة. وأذكر ليلةً قرأ فيها عثمان قصيدةً (في ركن) من ديوان محجوب (مسبحتي ودَّني) فكأنَّه أخذ ثوبًا من الحرير الأبيض ونشره، فتسمَّر محجوب على طرف كرسيِّه وأخذ يهتف (أنِّي آمنت باللَّه. أنِّي آمنت باللَّه) :
في الرُّكن شمعتها مورقةً. . . لتضيء حجرتها على وهن
وأتأمَّل سكرى مدلَّلةً. . . حاكت غلالتها من الفتن
وبهارها الورديَّ في حلم. . . أضفت عليه غواية البدن
وتسامر الصَّبَّان في وله. . . وتناجيًا بالحبِّ والشَّجن
ومضى حديثهما لغايته. . . لم يدر همسهما سوى الوسن
وتعانقا في شوق مغترب. . . صاد ورقة شادن لدن
وتمازجًا في صدر حالمة. . . قلبين قد خفقًا على سنن
والظِّلِّ عانق نحرها عطرًا. . . يبدي مفاتن عاطل حسن
وتنازع النَّهدان في قلق. . . ثوبًا يواري فتنة الزَّمن
فمقنع بوشاحها ومكوَّر. . . ترعاه كفّ مغازل فطن
والضَّوء حول رواقها صور. . . العين تنقله إلى الأذن
فاللَّون في وهج الرُّؤى نغم. . . حلو وتغريد على فنن
صور من الإحساس أصنعها. . . بدمي وفنِّيّ وهي تصنَّعني
يا شوقها العربيد في جسدي. . . نارًا أؤجِّجها فتحرقني
أنت الحياة شهيَّةً وأنا. . . قدران محمومان في قرن
عيناك ليس سوَّاهما وطن. . . لصبابتي أنا ها هنا وطنيّ
في تلك اللَّيالي كانت تلمع أبيات مثل النُّجوم الزَّهر، ننتظرها ونحتفي بها، ونهلِّل لها حين يلقيها قارئ القصيدة، مثل قوله في وصف الجبال الَّتي تغطَّت قممها بالثَّلج: “ليت شيبي كشيبها موسميّ. يرفع الصَّيف عن صباه القناعا”.
وقوله في وصف النِّيل:
لو كان يعلم أنَّ يوم لقائه. . . يوم الفراق تدبُّر الأسبابا
وقضى الحياة على الهضاب. . . بل عاد في كبد السَّماء سحاب
وكان يطربني قوله من قصيدته (تسبيح مغترب):
زوَّدتني عند الرَّحيل جرَّاحًا. . . ورمتني بسقمها عيناها
فأصبح هذا البيت ملكًا خاصًّا لي، فكان إذا جاء موضعه من القصيدة، نظر إلى محجوب نظرةً خاصَّةً. كان ولداه سيِّد وساميّ يقرآن معنا أيضًا ويضفيان على الجلسات لطفًا وحيويَّة، في تلك اللَّيالي استمع إلى الشِّعر من لا يستمع إليه عادة، وتعلُّم القراءة من لم يكن يقرأ، تلك هي اللَّيالي الَّتي كنت أحيانًا أقرأ فيها شعر المتنبِّي، فيغتاظ محجوب ويقول لي (يا أخي أنت عاوز تمسخ علينا شعرنا ولا أيَّةً). -رحمه اللَّه- رحمة واسعة، فقد كنت أمني النَّفس بلقائه في الخرطوم حين أتاني نعيه. وكأنَّه أحسَّ بدنوِّ أجله، فعاد من لندن إلى ضفاف النِّيل، الَّذي أحبُّه وتغنى به، ليرقد جنبه إلى الأبد. كان إنسانًا مضيئًا في عالم قليل الضَّوء، ومحبًّا في عالم يحتاج إلى كثير من المحبَّة.
- مجلة الدوحة، العدد 39، 1 مارس 1979، ص 42-46.
Leave a Reply