القبيلة بين الواقع والوهم: قراءة فلسفية في مقولة (القبيلة واقع.. لكن القبلية عصبية)

بقلم: طارق عبد اللطيف أبو عكرمة ماجد الغوث

#آراء_حرة

في مفترق التاريخ والهوية، تبرز القبيلة بوصفها معماراً مزدوج الوجه: فهي في آنٍ معاً موئلٌ للانتماء، ومصدرٌ للعصبية. مقولة المفكر والأستاذ علي الريح السنهوري (القبيلة واقع، لكن القبلية عصبية) ليست تصريحاً سوسيولوجياً عابراً، بل مدخلاً تأملياً لإحدى أكثر الإشكالات تركيباً في العالم العربي عموماً، والسودان على وجه الخصوص. إنها دعوة لإعادة تفكيك تلك الشبكة الدقيقة التي تربط الإنسان العربي بجذوره الأولى، وتكشف المفارقة العميقة بين الانتماء العضوي وبين انغلاق الوعي.

في هذا السياق، لا تأتي مقولة المفكر والأستاذ علي الريح السنهوري – أمين سر قطر السودان ومساعد الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي – كحكمةٍ عابرة، بل كموقفٍ يتجاوز السياسي إلى ما هو معرفيّ وأخلاقي. المنحاز دائماً إلى وعي الأمة العربية لا تشرذم الهويات، يُعبّر في مقولته (القبيلة واقع، وكل الناس ينتمون إلى قبائل، ولكن القبلية عصبية استهجنها الإسلام قبل 14 قرناً) عن توترٍ معرفيّ يطال كل المفاهيم المركبة: كيف نؤسّس للهوية دون أن نقع في فخ التمذهب؟ كيف نحتفظ بالجذور دون أن نُقتلَ بها؟ هنا لا يتحدث المفكر باسم (البرنامج)، بل باسم القيم التي تسعى لتجاوز الانغلاق، وتجعل من الانتماء أفقاً للتحرر لا قيداً للوعي. إنها عبارة تقف على حافة الفلسفة، وتستبطن تأويلاً بعثياً أصيلاً: أن الوعي القومي لا ينكر التعدد، بل يعلو به نحو وحدةٍ حرة، عاقلة، ومفتوحة على الإنسان في كليته.

القبيلة ليست وهماً، إنها جزءٌ من نسيج الوجود البشري، بلغة (هايدغر): الإنسان (كائن مُلقى به في العالم)، محتاجٌ إلى مأوى رمزي يُسكّن قلقه الوجودي. وهكذا كانت القبيلة أول وطن للذات، قبل أن تُولد فكرة الدولة، وأول اسم نُمنَح إياه قبل أن نختار. في ظل تآكل الدولة الوطنية الحديثة، كما هو الحال في السودان، تعود القبيلة من الهامش إلى المركز، لا فقط كذكرى، بل كآلية للبقاء، وللتنظيم، وللحماية. عندما تتفكك مؤسسات العدالة والسيادة، تتحول القبيلة إلى ملاذ طبيعي، لا بوصفها بديلاً للدولة، بل تعبيراً عن فشلها.

لكن في قلب هذا الانتماء، يكمن انحراف محتمل. فحين يتحول الانتماء إلى ولاء أعمى، تُولد العصبية. الإسلام لم يُلغِ القبيلة، بل أعاد تأويلها: من روابط دم تسكن العداء والتمييز، إلى شبكة تعارف تحتضن التنوع. إن الآية ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، – سورة الحجرات :13- ، والحديث النبوي: (ليس منا من دعا إلى عصبية)، ليست فقط نفيًا للعصبية، بل تأسيسٌ فلسفي لوحدة الاختلاف. بهذا المنظور، تكون القبيلة بدايةَ انتماء، لا نهايته، وتكون الدعوة إلى (المواطنة) ليست قفزاً على الروابط الصغيرة، بل تمديداً لها إلى أفق أخلاقي جامع. ليست القبيلة لعنةً حتمية، بل مورداً يمكن توظيفه لصنع اللحمة الاجتماعية، شرط أن تقترن بإرادة سياسية ترفع شعار (الوحدة في التنوع). كذلك، يمكن للقبيلة أن تتحول إلى قوة اقتصادية إذا أُسّست تعاونيات إنتاجية تعتمد على مهارات أبنائها لا على انتماءاتهم. هنا، يصبح الحل ليس في إنكار القبيلة، بل في تحرير طاقتها من سطوة العصبية، لتصبح لبنةً في صرح الوطن، لا سنداناً يثقل كاهله.

لكن الواقع العربي المعاصر غالباً ما يعكس ارتكاساً إلى ما قبل المواطنة، إلى قبائليةٍ سياسيةٍ تُوظّف الوعي القبلي بوصفه وقوداً للغلبة. في السودان، كما في كثير من الأقطار العربية، تحوّلت القبيلة إلى بطاقة انتخاب، وإلى عنوان للسلطة. إنها لم تعد انتماءً وجدانياً، بل أداةَ تصنيف اجتماعي، تُستثمر لتقويض فكرة المواطنة، ولتوزيع المنافع وفق معيار النسب لا الكفاءة. والأنكى أن القبلية أصبحت (مؤسّسة ظل)، تحكم من وراء خطاب الدولة، وتضبط شبكة الولاءات في البنية الإدارية والاقتصادية.

وما يزيد الطين بلة، أن منطق السوق الحديث لم يعارض هذا التحول، بل ابتلعه. تحوّلت الرموز القبلية إلى علامات تجارية، وصار (التراث) سلعةً تُباع في معارض السياحة، وتُختزل الهوية في مشهدية فولكلورية تروّج لاختزال الإنسان لا لتعقيده. في المقابل، يُقصى (اللامنتمون)، ويُوصمون كما لو كانوا نقيضاً للشرعية الاجتماعية، في ضربٍ جديد من اللامساواة.

لكن رغم كل هذا، ليس الحل في الدعوة إلى (محو القبيلة)، بل في تحريرها من الانغلاق. فالإنسان يحتاج إلى جذور، لكن الجذر لا ينبغي أن يتحوّل إلى قيد. يمكن للانتماء القبلي أن يبقى، بشرط ألا يصبح مركز الجاذبية الوحيد. والمطلوب هو نموذجٌ لهوية ذات طبقات: حيث تعيش القبيلة في قاع الذاكرة، تحت مظلة وطنية تشمل الجميع، وتنفتح على أفق قومي، وفضاء إنساني لا يختزل الكينونة في الاسم والعشيرة.

في المعادلة القبلية، غالباً ما تُختزل المرأة إلى جسرٍ لنقل النسب والميراث الرمزي، فتصبح جسداً تُحفظ فيه شجرة العائلة، لا صوتاً يُسمع. لكن هذا الدور المزدوج – حارسة التراث وقيدته – يحمل في طياته إمكانية التمرد. فحين تتحول المرأة إلى فاعلٍ في المجال العام (كقائدة، أديبة، أو ناشطة أو سياسية)، تتحطم تلك الصورة النمطية، ويُعاد تعريف الانتماء ليس كسجن للدم، بل كاختيار حر. الأمثلة لا تُعدّ: من الشاعرات الجاهليات اللواتي تحدين العصبية بقصيدتهن، إلى المرأة في الحكم الوطني بدولة العراق (قبل الغزو)، إلى النساء السودانيات اليوم اللواتي ينتزعن حقوقهن من بين فكي التقاليد المتصلبة.

في المغرب، على سبيل المثال، تُعد التجربة الأمازيغية نموذجاً لاستيعاب التنوع داخل الدولة، دون تذويب أو قمع. كذلك، يُظهر الأدب السوداني، في أعمال الطيب صالح وغيره، كيف يمكن للهوية أن تُصاغ في تناغم بين القرية والعالم، بين النهر والمحيط. هنا يأتي دور المثقف الحقيقي: لا ليمجّد القبيلة بوصفها ملاذاً متخيلاً، بل ليحررها من ذاتها، من تلك العصبية التي تشبه المرض الوراثي الذي ينتقل بصمت.

في الحكم الوطني في العراق – قبل الغزو الأمريكي- لقد رأى حزب البعث في (القبلية والطائفية) تناقضاً جذرياً مع مشروعه القومي التحرري، الذي ينطلق من فكرة (الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة). ففي أدبياته، لم يُنكر الانتماءات الجزئية (كالقبيلة أو الطائفة)، بل سعى إلى تجاوزها عبر العمل على تفاعلها وانسجامها في بوتقة الهوية العربية القومية الجامعة، معتمداً على ثلاثة محاور:

  1. التعليم القومي: بجعله أداة لتفكيك العصبية، عبر مناهج تؤكد على القيم المشتركة وتاريخ النضال العربي الموحد ضد الاستعمار.
  2. التنظيم الحزبي: ببناء هياكله على أساس الكفاءة والالتزام الفكري والمبدئي، لا الانتماء العائلي أو القبلي.
  3. الخطاب الأيديولوجي: برفضه توظيف الرموز القبلية في السياسة، واعتبارها (بقايا ما قبل الدولة)، مع التركيز على العدالة الاجتماعية كبديل عن ولاءات الدم، أو القبيلة، أو الطائفة.

لا يمكن فصل مقاومة العصبية عن إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وهنا يبرز التعليم كأداة حاسمة. فالمدرسة والجامعة ليستا مجرد فضاءات للتعلم، بل ورشات لبناء الهوية المشتركة. حين تُدرَّس التاريخ ليس كسردية قبائلية متنافرة، بل كتفاعل حضاري تشارك فيه جميع المكونات، وحين تُنمَّى قيم المواطنة عبر مناهج تعلي من شأن الكفاءة لا النسب، نكون قد وضعنا اللبنة الأولى لوعي يتجاوز الانغلاق. تجربة جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري خير دليل، حيث حوَّلت (لغة المصالحة) في المناهج التعليمية التراثات المتعددة من مصادر صراع إلى روافد لإثراء الهوية الوطنية.

إن القبيلة قد تكون جذراً ضرورياً، ولكن حين تُجعل من الجذر مسكناً نهائياً، تُقبر فيه الروح، تصبح هويةً قا.تلة. إذن القبلية ليست خطيئة في ذاتها، بل في حين تُحوّل إلى معيار للقيمة، وإلى حدود للفكر، وإلى أساسٍ للتمييز. فهل يمكننا أن نكون أبناء قبائلنا دون أن نكون أسرى لها؟ يمكن ذلك فقط إن امتلكنا الشجاعة للفصل بين الجذور والقيود، بين التاريخ والجمود، بين الأصل والعصبية.

ليس المثقفون والإعلاميون مجرد مراقبين، بل مهندسون للوعي. فإذا كان الخطاب الإعلامي يُضخّم الخلافات القبلية لغرض الإثارة (كما في بعض البرامج الحوارية)، فإنه يتحول إلى وقود للانقسام. بالمقابل، يمكن للإعلام أن يكون جسراً للمواطنة عبر توثيق قصص التعايش التاريخي بين القبائل، أو تسليط الضوء على نماذج مثل (أطباء بلا حدود) الذين يعملون في مناطق النزاع دون تمييز. أما المثقف، فمهمته أكثر تعقيداً: أن يرفض أن يكون (مؤرخ البلاط) القبلي، وأن يتحول إلى ناقدٍ للذاكرة، لا كاتبَ سيرتها المزيفة.

وهنا يتجاوز هذا السؤال الطابع المحلي، ليصبح سؤالًا إنسانيًا: كيف نحمي الانتماء من أن يتحوّل إلى استعباد؟ كيف نُعيد للقبيلة معناها كحاضنة تضامن، دون أن نسمح بتحوّلها إلى جهاز تمييز؟ كيف ننتمي إلى ذواتنا دون أن نحاصر الآخر؟ الجواب، ربما، يكمن في المسافة الحرجة بين الذاكرة والوعي، وفي القدرة على جعل القبيلة امتداداً للإنسان، لا نقيضًا له.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.