السياسة العضوية.. مصطلحات وأمثلة سودانية

بقلم: ماجد الغوث
#آراء_حرة

مقدمة:

(السياسة العضوية) مصطلحٌ يفتح أبواباً متعددة للقراءة والتحليل، إذ يمتد في دلالاته عبر مجالات الحياة المرتبطة بواقع الناس، سواء في السياسة، أو الفكر، أو التنظيم، أو الدولة. على المستوى السياسي، يمكن تشبيه السياسة العضوية بالكائن الحي؛ حيث يتكوّن الجسد من خلايا وأعضاء متكاملة تعتمد على بعضها البعض، كذلك السياسة العضوية هي نتاج علاقة تبادلية بين الأفراد وتفكيرهم السياسي والمجتمع ككل. هي إذًا نمط من (الاجتماع السياسي)، ينشأ من رحم الواقع الاجتماعي من خلال منهج فكري وفلسفي، لمعالجة قضايا مجتمعية، تصعد من القاعدة الجماهيرية وتعود إليها بعد بلورة حلول عملية تراعي خصوصية المجتمع.

المصطلح بين هيغل وميشيل عفلق:

يرتبط مصطلح (السياسة العضوية) ارتباطاً فكرياً بفلاسفة ومفكرين كبار، أبرزهم هيغل الذي منح المفهوم بعداً فلسفياً عميقاً، بينما يعود بجذوره إلى فلاسفة قدامى أمثال أفلاطون، ومروراً بأنطونيو غرامشي الذي وظّفه في مقاربة العلاقة بين المثقف والمجتمع، وصولاً إلى الأستاذ ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث، الذي أعاد تعريفه في إطار قومي عربي. وقد قال الأستاذ ميشيل عفلق في كتاب في سبيل البعث: “لحركة البعث منطق خاص لأنها انبثقت من قلب العروبة، من أعماق التربة العربية، ومن صميم مشاكل أمتنا. فهي حركة صادقة أصيلة، لها موقفها الخاص كالكائنات الحية التي تنمو حسب قوانين ثابتة، متفاعلة ومتطورة”. وقد ترجم الش.هيد صدام حسين هذا المفهوم إلى تجربة عملية عبر (نظرية العمل البعثية) في العراق، التي مثّلت صيغة من التفاعل العضوي بين الحزب والإنسان، وتعبّيراً عن خصوصية الواقع والتكوين المجتمعي.

في سياقٍ آخر، تُشير بعض الدراسات إلى أن أدولف هتلر تبنّى مبدأ (السياسة العضوية) بطريقة مختلفة، وذلك حين تبنّى مفهوم (المجال الحيوي) كسياسة توسعية تعكس رؤية قومية متطرفة تنبع، في ذهنه، من حاجة الكيان العضوي (الأمة الألمانية) إلى التوسع والنمو.

إذن إن السياسة العضوية ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة أخلاقية ومعرفية لبناء مشروع وطني أصيل. فحين تتحدث السياسة بلغة الناس، وتتغذى على حكمتهم اليومية، وتُترجم طموحاتهم في كلمات مألوفة وسلوكيات مفهومة، تصبح السياسة جزءاً من الحياة، لا شيئاً مفروضاً عليها.

أولاً: مصطلحات شعبية سودانية في سياق السياسة العضوية

في محاضرة نظّمها مجمع اللغة العربية بالخرطوم تحت عنوان: “الألفاظ الشائعة في الإعلام السياسي خلال ح.رب السودان 2023–2025″، استعرض المحاضرون تطور اللغة الشعبية، وكيف تحوّلت إلى وسيلة لصياغة الرأي العام وتشكيل التصورات السياسية. لقد أصبحت بعض المسكوكات اللفظية تحمل دلالات عميقة تعكس الالتحام العضوي بين اللغة والواقع السياسي. من الأمثلة:

  1. (بل بس): أصلها من الحبل المتسخ المستخدم لتقييد البهائم، وتُقال لوصف المتوقع من المتحدث أو موقفه المُسبق.
  2. (جغم): أصلها شرب الماء بسرعة، لكنها باتت تُستخدم للدلالة على الق.تل السريع واليسير في سياقات الح.رب.
  3. (عُردُ): تعني الهرب، ولها جذور عربية كلاسيكية، لكنها اكتسبت بعداً جديداً في سياق الفرار من المعارك.
  4. (أم قرون): تعبير أنثوي أصبح يُستخدم للدلالة على تأثير المرأة في المعارك أو اتخاذ القرارات المفصلية. تُظهر هذه الألفاظ كيف تحوّلت الكلمات إلى رموز للصراع، وأحياناً إلى أدوات لشيطنة الآخر، أو تضخيم الذات، في ظل اشتداد التوترات. وهو ما يعكس عمق العلاقة بين الوجدان الجمعي والخطاب السياسي في زمن الح.رب.

ثانياً: مسكوكات لفظية شعبية تُعبّر عن فلسفة الحياة اليومية في زمن الأزمات

في خضم المعاناة اليومية، وتحت وطأة الح.رب الممتدة، طوّر السودانيون مفرداتهم الشعبية لتصبح أكثر من مجرد ألفاظ دارجة، بل أدوات للتفسير، والتأويل، والتحليل الاجتماعي العميق. هذه الكلمات ليست مجرد لهجة، بل هي انعكاس لحكمة الحياة، وتراكم التجربة، وسخرية الوجدان الجمعي من العبث. من الأمثلة البارزة:

  1. (صامولة صامولة): تعبير مجازي يدلّ على الصبر الطويل والدقة في إصلاح الأشياء، وكأنه يقول: لا تُصلح الخراب دفعة واحدة، بل تأنَّ وتروَّ، خطوة خطوة، وهذا يعكس موقفاً فلسفياً تجاه الحياة والعمل الجماعي.
  2. (الخير تجقلب والشكر لحماد): مثل دارج يُستخدم حين يُنسب الفضل لغير أهله، أو حين يجني آخرون ثمار عملك، وهو يعكس إحساساً عميقاً بالخذلان، وفي الوقت ذاته سخرية نبيلة من اللاعدالة المتكررة.
  3. (الجلد ما فيهو شعرة): تُقال عن الشخص الصادق الذي لا يُخفي شيئاً، أو الموقف الذي لا يحتمل التلاعب، ويُستخدم أيضاً في نقد السياسة حين يُطالب أحدهم بالشفافية.
  4. (راسو مافي): يُقال عن الشخص غير الواعي أو غير المبالي، لكنه اكتسب في بعض السياقات السياسية بعداً ساخراً يصف الغفلة الجماعية أو التهور في اتخاذ القرار.
  5. (نشفني): تعبير عن الإنهاك العاطفي أو الذهني، وكأن المتحدث قد استُنزف حتى الجفاف. وقد بات يُستخدم لوصف ضغوط الحياة اليومية من طوابير الخبز إلى ق.صف الطائرات.
  6. (كراع جوة وكراع برا): تُطلق على الشخص أو الجهة المترددة بين موقفين، وهي من أكثر التعابير تداولاً في وصف الانقسام السياسي أو التذبذب في التحالفات.
  7. (كان بقيت نملة ما يلقوك): تعبير يُستخدم للدلالة على الاختفاء التام، أو التواري خوفاً من العقاب أو الان.تقام، وانتشر بقوة في فترة الملاحقات والا.عتقالات.

ثالثاً: أمثال شعبية في السياسة العضوية السودانية

المجتمع السوداني زاخر بالحِكم والأمثال الشعبية التي تنبع من تجربة حياتية معقدة، وتشكل جزءاً من الوعي السياسي الشعبي. وقد استخدم السياسيون، بوعي أو بدون وعي، هذه الأمثال في تحليل الواقع أو تبرير مواقفهم. من هذه الأمثال:

  1. (الخيل تركب أمها): يُقال للشخص الذي يتحمّل مسؤولية اختياراته السياسية، مهما كانت كلفتها.
  2. (الجار قبل الدار): يعبّر عن أهمية العلاقات مع دول الجوار في صياغة المواقف والسياسات.
  3. (القشة التي قصمت ظهر البعير): لتوصيف الأثر الكبير لتفصيل صغير في تفجير أزمات سياسية.
  4. (المارد الأعمى والكسيح المُبصر): يرمز إلى حالة عدم التكافؤ في التحالفات السياسية.
  5. (البشاغل الجريوات بخربشنو…): تحذير من التلاعب في القضايا السياسية مع من لا مسؤولية لهم.
  6. (بوخة مرقة): تدل على الاستخفاف أو عدم الجدية في التصرف السياسي.
  7. (أكلو توركم وأدوا زولكم): توصيف لحالات الاحتيال السياسي أو غش الجماهير.
  8. (جيناكم عشان البطيخة تكبر في عرقا): تبرير مخادع لفعل سياسي تم دون الرجوع للشعب.
  9. (الما عندو قديم ما عندو جديد): يُبرز أهمية التاريخ والتراث السياسي في تشكيل الحاضر.
  10. (الدلو المخروم ما بيملي): يرمز إلى فشل أي مشروع سياسي إذا كان أساسه مختلاً.
  11. (كان غلبك سدّها، جيب ليها خيط وخرزها): للدلالة على أهمية البحث عن حلول عملية ولو كانت غير تقليدية.
  12. (الضنب كان اتعدل بكسروه): يُشير إلى صعوبة إصلاح ما ترسّخ فيه الاعوجاج السياسي أو الأخلاقي.
  13. (الحيطة القصيرة بيقدوا منها): يُستخدم لوصف استغلال الفئات الضعيفة سياسياً.
  14. (الفي البر عوام): نقدٌ يُوجّه لمن يتكلم عن الشأن العام من دون خوضه أو تحمل تبعاته.

خاتمة

رغم غِنى التراث الشعبي السوداني بالأمثال والمصطلحات والتعابير التي تشكل خلاصة التجربة الجمعية ومرآة الوعي الاجتماعي والسياسي، فإن هذا التراث لا يزال مُهمشاً في خطاب النخبة، ومغيباً عن ساحات الفعل السياسي الرسمي. وهو غيابٌ لا يُفسَّر فقط بإهمال الذاكرة الشعبية، بل أيضاً بانفصال السياسة عن جذورها الاجتماعية والثقافية.

وهنا تبرز أهمية (السياسة العضوية) بوصفها مشروعاً لإعادة وصل ما انقطع بين السياسة والحياة اليومية، بين الخطاب النخبوي واللغة التي يفكر ويتحدث بها الناس. إن السياسة العضوية لا تقتصر على الانحياز للفقراء أو مخاطبة القواعد، بل هي في جوهرها فعلٌ متجذر في البيئة، نابع من السياق المحلي، ممتزج بلغة الناس وتقاليدهم ووجدانهم.

إن استعارة الأمثال الشعبية مثل (الخير تَجَقْلَب والشكر لحمّاد) أو (صامولة صامولة) لا تهدف للتزيين البلاغي، بل للتعبير عن حكمة متوارثة تتجاوز الأيديولوجيا، وتُجسد مفاهيم عميقة حول الفعل الجماعي، والعدالة، والاعتراف، والانضباط في العمل والتدرج في البناء. فالسياسة التي تعجز عن مخاطبة هذا العمق الشعبي، تظل (معقّمة)، بلا أثر، كأنها قادمة من مختبر لغوي لا من رحم المجتمع.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.