
بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#آراء_حرة
في زمنٍ تتشظى فيه الجغرافيا العربية لا فقط تحت القنابل والطائرات المسيّرة، بل أيضاً تحت ضغط البيانات والرموز والخوارزميات، وفي لحظة تُعاد فيها صياغة العالم وفق منطق التبعية الرقمية والهيمنة المعرفية، ينهض الجيل البعثي الرابع لا كاستمرار آلي لما قبله، بل كإرادة نقدية تسعى لتجاوز التاريخ عبر وعيٍ جديد بمعناه ووسائله.
لقد تَشكّل هذا الجيل في قلب الانهيار: انهيار الحلم القومي، وانهيار الدولة الوطنية، بل حتى انكسارُ اللغة التي لم تعد قادرة على احتواء الألم أو التعبير عن المأساة. نشأ هذا الجيل بين زمنين: زمن الهزيمة الكبرى، وزمن الاتصال الكوني المفتوح. لم يرَ في القومية شعاراً بل سؤالاً، ولم يرَ في التنظيم غاية، بل وسيلة يتطلبها شروط الصراع الجديد.
وإذا كان الجيل الأول للبعث هو جيل الرؤيا، والجيل الثاني جيل الدولة الوطنية، والثالث جيل المقاومة السرية، فإن الجيل الرابع هو جيل التأويل والتحوّل. إنه الجيل الذي يعيد طرح الأسئلة من جذورها: ما معنى العروبة في عصر ما بعد الدولة؟ ما معنى التحرر في عالم تهيمن عليه شركات الذكاء الاصطناعي؟ ما معنى الكرامة حين يُعاد تشكيل الإنسان العربي كمُستهلك، لا كمواطن، كمستخدم لا كفاعل، ككائن متلقٍ دائم بدلاً أن يكون منتجاً للمعنى؟
الجيل الرابع لا يكتفي بأن يرفع راية البعث، بل يعيد التفكير في لونها، في شكلها، في جدواها. إنه لا يريد أن يكرر الخطاب، بل أن يفككه ليُعيد بناءه على أسس معرفية جديدة. وهو يدرك أن البعث اليوم، إن لم يكن نقداً للمنظومة السائدة بكل أدواتها، من الاقتصاديات الريعية إلى المنصات الرقمية المستعمِرة للوعي، فإنه سيكون مجرّد أثر منقرض، لا طاقة استئناف.
الجيل الرابع نشأ في عالم تحكمه شركات تكنولوجيا أكثر من تحكمه حكومات، وفي فضاء معرفي يتعرض فيه العقل العربي للاخت.طاف لا عبر الدبابة، بل عبر (الترند)، (الخوارزمية)، (الخبر المُفبرك)، و(صناعة الرأي العام). وهو لهذا جيلٌ مقاوم على جبهات غير مرئية: جبهة المعرفة، وجبهة اللغة، وجبهة الخيال. لا يخوض معاركه في ميادين الجيوش فقط، بل في داخل الهواتف، وفي عمق المناهج، وفي بنية اللاوعي الجمعي.
فهو جيل لا يحلم بالسلطة، بل يسعى إلى تفكيك علاقتها بالمعرفة. لا يطلب من الدولة أن تحرره، بل يسأل: أي دولة؟ ومن يملك تعريف الحرية؟ لا يكتفي بالتنديد بالاحتلال، بل يفكك بنيته الخطابية، وآلياته النفسية، وتمثلاته الثقافية. إنه جيل لا يسكن الماضي، ولا يستقيل من الحاضر، بل يُعيد رسم المسار من نقطة لم تكن مرئية.
وهو جيل يرى أن القضية الفلسطينية لم تعد فقط قضية أرض تُحتل، بل قضية وعي يُحاصر. وأن الع.دوّ لم يعد فقط جندياً على الحاجز، بل أيضاً (مُطوّراً) في وادي السيليكون يصنع الخوارزميات التي تُشكّل صورتك عن نفسك، وتُعيد برمجة لا وعيك، وتُقنعك أن الهزيمة قدر، وأن النسيان خلاص.
هذا الجيل، في لحظة تكنولوجيا ما بعد الحقيقة، يعي أن السردية القومية لا يمكن أن تُعاد إنتاجها بنفس اللغة، بل بلغة تخترق الواقع الرقمي، وتُعيد هندسة الوعي الجمعي العربي على أسس مقاومة لا للاحتلال فقط، بل لمحو الذات.
إنه جيل يربط بين التحرر السياسي والتحرر المعرفي، بين الكفاح من أجل السيادة والكفاح من أجل المعنى، بين نقد الاستعمار الخارجي ونقد الاستعمار الداخلي المتمثل في المناهج، والأنظمة، والنخب، والثقافة. وهو لهذا يحتاج إلى حركة فكر، وتيار خيال، وبنية ثقافة، وأفق إنساني يُعيد للعروبة بعدها الكوني وقدرتها على مقاومة التفكك.
في فلسطين يرى هذا الجيل مرآته، لكنه لا يراها فقط كجغرافيا تُقصف، بل كرمز كوني يُخت.طف من الذاكرة. في غزة، يرى الثورة لا كحدث، بل كزمن مستمر. في العراق، لا يرى البعث نظاماً بل يرى فيه الذاكرة الحية لفكرة لم تمُت.
الجيل الرابع ليس نُسخة عن سابقيه، بل امتداد تكاملي وتناغمي، بل قفزة في التاريخ. لا ينتظر المستقبل بل يشتبك معه. لا يُقلّد، بل يبتكر. لا يثور ليهدم، بل ليبني. هو جيل الوعي الناقد، والخيال المقا.تل، والمقاومة التي لا تُقاس بعدد البنادق، بل بقدرة الفكرة على الصمود في عصر الانهيار.
فليكن هذا الجيل هو الجواب، لا فقط على هزائم الماضي، بل على أسئلة المستقبل. وليكن البعث، لا كذكرى، بل كمشروع مفتوح، لا يتقادم، بل يتحوّل. فالمعركة الآن ليست فقط على الأرض، بل على اللغة، على الذاكرة، على الجغرافيا، على الوجدان والإيمان والعقل، وعلى صورة الإنسان العربي في عيني نفسه.
Leave a Reply