ثوري… ثوري… مهيرة السودان

بقلم: د. منال جنبلان

#ملف_المرأة_والمجتمع

لم يعد اسم “مهيرة” يُطلق فقط كتسمية تيمناً بالأيقونة السودانية “مهيرة بت عبود”، بل غدا لقبًا تحمله كل من حملت همَّ وطنها، وتقدّمت طلائع الصفوف دفاعًا عن السودان أرضًا وشعبًا. وما كانت رائعة الشاعر السر دوليب: “ثوري… ثوري يا مهيرة السودان”، التي تغنى بها الثنائي حنان إبراهيم وحيدر حدربي، إلا تجسيدًا حيًّا لقيم نضال المرأة السودانية عبر الحقب.

يرجع هذا اللقب المجيد إلى “مهيرة بت عبود بن إزيرق بن زرقان بن أحمد (أرنباي) بن حمد بن سرور بن علي بن وصيف (سرار) بن سوار بن شايق بن حميدان العباسي”، ويُذكر أن نسبها ينتهي –بحسب بعض المؤرخين– إلى الشريف العباس بن عبد المطلب.

ومهيرة، في اللغة، تصغير “مهرة”، وهي الفرسة الفتية، ولعلها نالت من اسمها نصيبًا، فكانت فارسةً في قومها، تتقدم صفوف الجيوش، وشاعرةً تلتهب قوافيها حماسة في وجوه الغزاة.

برز اسم “مهيرة بت عبود” كأحد أعلام النساء السودانيات، وخلّدها التاريخ شاهدَةَ عصرٍ على غزو جيوش إسماعيل باشا للسودان. ولدت مهيرة عام (1780م – 1840م) بقرية “أوسلي”، وورد في بعض كتب التاريخ أنها امتهنت “الفِدّة” أو “الفدّادة” (صناعة الخمور)، وهو ما كان شائعًا في ذلك الزمان، وقد استُخدم هذا التفصيل لاحقًا للطعن في وطنيتها، غافلين عن أن الانتماء للوطن لا تحدّه المهن، وأن النضال لا تُبطله نظرات مجتمعية قاصرة.

كانت مهيرة ابنة الشيخ عبود، زعيم بادية السواراب، إحدى فروع قبيلة الشايقية. وفيما كان يُعرف زعماء بعض الفروع بلقب “الملك”، مثل الملك صبير للحنكاب، والملك شاويش (شاؤوس) للعدلاناب، والملك حمد للعمراب، فإن السواراب لم يستخدموا هذا اللقب.

حين قرر محمد علي باشا غزو السودان، أرسل ابنه إسماعيل باشا، الذي انطلق من أسوان، وسيطر على بلاد النوبة، ثم دنقلا، حتى واجه قبائل الشايقية. فبعث إليهم يدعوهم للاستسلام ودفع الجزية وتسليم السلاح. اجتمع زعماء الشايقية وتداولوا أمره، ثم ردوا عليه:
“أما الجزية فنؤديها بلا حرب، وأما خيولنا وسلاحنا فما نسلّمها إلا بالحرب.”

غضب إسماعيل باشا، وسير جيشًا بقيادة “عبادي كاشف”. تفرق الملوك بين من انصاع للتهديد، ومن تردد، ومن صمّم على القتال رغم تواضع سلاحهم أمام البنادق والمدافع الغازية. هنا، لم تأبه مهيرة بحسابات المنطق، بل أشعلتها الفراسة، وساقتها الغيرة الوطنية، لتحفز الرجال وتحرضهم على القتال، قائلة:

اللّيلة العقيد شُفتو متمسكن
وفي قلب التراب شُفتو متجكن
الراي فارقو… لا بشفي لا بمكن
ما تتعجبن ضيم الرجال يمكن
خلوكن براكُن الليلة وحدكن
بتمشَن تحاربن… ولا بتتتبكن

وحين رأت في عيونهم التردد، خاطبتهم بإصرار:

يا فرسان ادفرو واحنوا واطّنا
ولا أدونا السيوف وهاكم رُحاطتنا

خافت إن تلاقت الصفوف أن يتقهقر الرجال، فاختارت أن تتقدمهم، تركب هودجها (شُبرية)، وتلهب الحماس. فكانت “العَطْفَة”، وهي عادة عربية قديمة تدفع بابنة الزعيم لقيادة الرجال معنويًا إلى المعركة. وهكذا أنشدت مهيرة، شاعرةً ومحرضةً:

غنيت بالعديلة لعيال شايق
البراشو الضعيف ويلحقوا الضايق
الليلة استعدّوا واركبوا خيل الكر
وقدامهم عقيدم بالأغر دفر
جنياتنا الأسود الليلة تتنبر
يا الباشا الغشيم قول لجدادك كر!

وطفقت تنادي الفرسان واحدًا تلو الآخر:

حسان بحديدو الليلة اتلتم
الدابي الكامن في جحره شم الدم
مأمون يا الملك يا نقيع السّم
فرسانًا بكيلوا، العين يفرّجوا الهم!

وفي صباح 4 نوفمبر 1820م، في “حلة أم بقر” قرب “كورتي”، خاض رجال السودان معركةً شرسةً ضد جيش الاحتلال، لا يملكون إلا السيوف والدروع، فقاتلوا ببسالةٍ، وقتل منهم نحو 400 فارس، بينما قتلوا 30 من جنود العدو المدججين بالمدافع. وخلفهم كانت امرأة، تهتف فيهم، تصرخ بالثبات، وتدعو للكرامة.

رحلت مهيرة عن الدنيا في قريتها “أوسلي”، تاركة إرثًا من البطولة والقصائد والحِكَم، نقشته في صخر التاريخ، ليظل مشعلًا تهتدي به نساء السودان في كل حقبة.

فيا مهيرات بلادي…
ما أحوجنا اليوم إلى الوحدة بديلًا للفرقة، وإلى الحِمى بديلًا للتناحر، فقد أُريق من أجل هذا الوطن دمٌ طاهر، يستحق أن نصونه، أرضًا وشعبًا، بصدق الوفاء لا بلاغة الهتاف.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.