“هل الفلسفة تؤدي إلى الإلحاد؟

بقلم: زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
#ملف_الهدف_الثقافي
منذ فجر التاريخ والعقل البشري يسائل الوجود: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ وهل هناك من خلقنا وأبدع هذا الكون؟ أسئلة ليست وليدة اللحظة، بل تنبض في أعماق الوعي الإنساني، وتطل برأسها كلما خفت ضجيج العادات، أو تصدعت جدران الموروث. وحين نطرح السؤال المثير: هل الفلسفة تؤدي إلى الإلحاد؟ فإننا لا نطرح مجرد استفسار فكري، بل نلامس هاجسًا عميقًا يسكن المجتمعات، حيث تُربط الفلسفة غالبًا بالخطر، أو بالتمرد على المقدس، أو بالانفصال عن الإيمان.

لكن هل هذا الربط حتمي؟ هل التفكير الحر يؤدي بالضرورة إلى إنكار الإله؟ أم أن الفلسفة، حين تُفهم في جوهرها، تُصبح أداة لتوسيع أفق الإيمان، لا لهدمه؟

الفلسفة ليست دينًا، ولا دعوة إلى الإيمان أو الكفر، إنما هي نشاط عقلي محض، يبحث في أصل الأشياء، ويعيد مساءلة ما يبدو بديهيًا، ويعيد النظر في اللغة التي نستخدمها، والمفاهيم التي ورثناها، وحتى في الطرق التي نفكر بها ذاتها. إنها تمرين على التفكير، لا على الانتماء. وبالتالي، ليست هي بذاتها ما يؤدي إلى الإلحاد، بل ما قد يُستخرج منها، أو يُحمّل لها، وفقًا للمنطلقات الفكرية والشخصية للمتلقي.

غالبًا ما ارتبطت الفلسفة بالإلحاد في أذهان البعض نتيجة ظروف تاريخية محددة، لا بسبب جوهرها. ففي أوروبا الحديثة، خرج فلاسفة من رحم المعاناة الدينية التي فرضتها الكنيسة، فبدأوا بنقد الدين المؤسسي، لا الإيمان الروحي. التنوير، في سياقه التاريخي، كان تمرّدًا على السلطة باسم العقل، وليس بالضرورة رفضًا لله من حيث هو كينونة روحية. لكن هذا التمرد أخذ منحى حادًا عند بعض المفكرين، كنيتشه الذي أعلن “موت الإله”، أو ماركس الذي اعتبر الدين أفيون الشعوب. من هنا نشأت صورة نمطية للفيلسوف الملحد، وجرى تصديرها إلى الثقافات الأخرى، خاصة في العالم الإسلامي، وكأن كل فلسفة تؤدي إلى رفض الدين.

في الواقع، التاريخ الإسلامي يقدّم نموذجًا مختلفًا تمامًا. فقد كانت الفلسفة، ولا سيما في العصر العباسي، حاضرة في قلب التجربة الإسلامية. فالكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، مارسوا التفكير الفلسفي من داخل الإيمان، لا من خارجه. حتى الغزالي، الذي هاجم الفلاسفة في “تهافت الفلاسفة”، لم يهاجم الفلسفة ذاتها، بل إساءة توظيفها. فهو نفسه فيلسوف كبير، مرّ بتجربة شك فلسفية عميقة، وخرج منها إلى يقين صوفي لا يقل عمقًا عن تشكيكه السابق.

إن الفلسفة لا تزرع الإلحاد، بل تزرع السؤال. السؤال الذي قد يهدم وهمًا، لكنه قد يبني وعيًا. فالفكر الفلسفي لا يهدف إلى زعزعة الإيمان، بل إلى تمكينه من الصمود أمام الأسئلة، والتفاعل مع التحولات. من هنا، فإن من يخاف الفلسفة، غالبًا ما يخاف السؤال، لا الجواب. يخاف من أن تتعرى مسلّماته، لا من أن تتجدد.لكن من المهم الاعتراف أن الفلسفة قد تكون بالفعل طريقًا إلى الإلحاد لمن يدخلها بقلب فارغ من المعنى، أو بعقل متضخم بالرغبة في النفي. فالإلحاد لا ينتج فقط عن البرهنة العقلية، بل كثيرًا ما يكون ناتجًا عن ألم داخلي، عن فقد، عن خذلان من رجال الدين، أو عن أزمة هوية. وقد تكون الفلسفة وسيلة لتبرير موقف سابق، لا سببه الحقيقي.

وفي المقابل، هناك من وجد في الفلسفة طريقًا إلى الإيمان الأعمق. فالفيلسوف الدنماركي كيركغارد رأى أن الإيمان قفزة يتجاوز فيها الإنسان العقل، لا هروبًا منه، بل لبلوغه. والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن جعل من العقل الروحي أداة لمساءلة الحداثة المادية، مدافعًا عن الإيمان بقوة المنطق والتحليل. وابن رشد رأى أن الشريعة تأمر بالتفلسف، لأن النظر العقلي سبيل إلى فهم أعمق للوحي. ليست المشكلة في الفلسفة، بل في الطريقة التي تُدرّس بها، وفي البيئة التي تُطرح فيها، وفي النوايا التي تتحكم في مسار التفكير. في بيئة تقمع السؤال، وتقدس الجهل، تصبح الفلسفة خصمًا. وفي بيئة تحترم العقل، وتوازن بين النقد والإيمان، تصبح الفلسفة حليفًا.

من الخطأ أن نقابل الفلسفة بالدين، وكأنهما نقيضان. فالعقل والإيمان جناحان لطائر واحد. من ينفي أحدهما، لا يطير. والإنسان، في جوهره، كائن يتوق إلى المعنى، لكنه لا يكتفي بالتسليم، بل يريد أن يفهم، أن يسأل، أن يتحقق. وهذا ما تفعله الفلسفة. إنها لا تُغني عن الإيمان، لكنها تُنضجه، وتُطهّره من السذاجة، وتمنحه بعدًا أخلاقيًا وإنسانيًا أعمق.

وحين نسأل اليوم: هل تؤدي الفلسفة إلى الإلحاد؟ ينبغي أن نعيد صياغة السؤال: هل نحن نستخدم الفلسفة للبحث عن الحقيقة؟ أم للهروب منها؟ هل نمارس التفكير كفضيلة؟ أم كأداة لنفي المقدس؟ إن الإجابة ليست في الكتاب، بل في القلب الذي يقرؤه، وفي العقل الذي يتأمل، وفي النية التي تحرك البحث.

إن الفلسفة ليست بابًا للضياع، بل هي أحيانًا دليل النجاة من السطحية. ليست بالضرورة طريقًا إلى الله، لكنها طريق لفهم أعمق للحاجة إليه. ومن يسير فيها بصدق، لن يُضيع نفسه، بل سيكتشفها. سيعرف أن الإيمان لا يعادي العقل، بل يحتاجه. وأن السؤال، مهما بدا مرعبًا، قد يكون بوابة إلى نور لا يبهت.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.