
بقلم: عبد الله رزق أبو سيمازه
#ملف_الهدف_الثقافي
ينظر السودانيون، دائمًا، نظرة خاصة لمصر. وعادة ما يصفون علاقة بلادهم بها بالأخوية، والخاصة والأزلية. رغم أن روابط السودان ببقية جيرانه، يمكن أن تقبل تلك الأوصاف. ولمصر، كذلك، مكانة متميزة في الوجدان السوداني، عبر عنها الشعر والغناء والمديح النبوي. وقد اندفع مليون ومئتي ألف سوداني، حسب الإحصاءات المصرية الرسمية، من مجموع ستة مليون لاجئ، نحو مصر طلبًا للأمان، إثر اندلاع الحرب الجارية، الآن، في البلاد. واعتبرت الدكتورة أماني الطويل، الباحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الخبيرة في الشأن السوداني، ذلك الحراك الجماهيري، وما أسمته، بالمقابل، “الاحتضان المصري لنازحي الحرب السودانية”، الذي وصفته بأنه “يتمتع بالإيجابية، في مجمله، على الصعيدين الرسمي والشعبي”، وصنفته، من ثم، عاملًا يمكن استثماره في دعم دور القاهرة في إنجاز مصالحة شاملة، تنهي الحرب في السودان، وفي” بلورة وهندسة عملية توازن للمصالح بين البلدين، تضمن شراكة متوازنة”. على حد تعبيرها. لا يمكن تحديد مبتدأ تلك العلاقة الوثيقة بين البلدين، موضوع المقال. ففي ما قبل التاريخ كانت “كيميت”، جذر الوحدة الأكثر عمقًا، وجذر التاريخ المشترك اللاحق، منذ ابتداء دورة التاريخ، وقد توزعت على عدد من الممالك، من كوش ونبتة ومروي، حتى سنار.
خلال عهد محمد على، وابنه إسماعيل، بدأت هذه العلاقة، تتمثل في وعي مرحلي وأشكال محددة، وعي بأهمية العلاقة وضرورة تأطيرها سياسيًا، بدأت بالضم والإلحاق. ولعبت مصر الخديوية دورًا حاسمًا في تعيين كيان، ما سيعرف لاحقًا بالسودان، والسودان الإنجليزي المصري، منذ العام 1899 بحدوده الحالية، تقريبًا، وارتبطت منذ ذلك الوقت بالسودان، ارتباط السودان بها، بجانب تفتح الوعي بالمصالح المشتركة والمنافع، التي يمكن تبادلها عبر الحدود، التي ظهرت حديثًا. للعلاقات بين مصر والسودان، مستويان، رسمي وشعبي، وبعدان، ثابت ومتغير. وهذا الأخير، يرتبط، جدليًا، بشكل الحكم، في كلا البلدين، وتوجهاته، في كل مرحلة. لم تكن مصر، كعمق استراتيجي للسودان، غائبة من فكر قائد سوداني، مثل المهدي، سواء فيما يقال عن عزمه على افتداء الزعيم أحمد عرابي بغوردون، أو في حملته، التي وجهها لفتح مصر، بقيادة الأمير عبد الرحمن النجومي، مثلما كانت حاضرة في الحملة المضادة، بقيادة كتشنر لاستعادة السودان، باعتباره من الأملاك الخديوية، من ناحية، وللانتقام لمقتل غوردون باشا، من ناحية أخرى. غير أن انفراد الإنجليز بحكم السودان، بعد ثنائية “الفتح”، دفع بمصر، من منطلق الكفاح المشترك، لأن تلقي بثقلها وراء الحركة التحررية في جنوب الوادي، التي رفعت شعار وحدة وادي النيل، التي انبثقت من أوساط العمال والأفندية والعسكريين، وغيرهم، من الفئات الجديدة، التي أفرزها الاستعمار، التي عبرت عن نفسها، كأقوى ما يكون التعبير، في انتفاضة 1924، كما في الحركة السياسية، التي صنعت الاستقلال، فيما بعد، التي ورثت، ذات التوجه نحو الوحدة مع مصر. وقال شاعرها:
ما فيش تأني
مصري/ سوداني
نحن الكل
ولاد النيل.
ربما يكون ملائمًا، بين يدي مرحلة جديدة من العلاقات بين شطري وادي النيل، استدعاء روح كفاح وعنفوان تيار “وحدة وادي النيل”، قويًا وملهمًا، مثلما كان خلال الثلاثين عامًا، التي أعقبت ثورة حركة اللواء الأبيض.
ومع ثبات ما هو جوهري، في العلاقات السودانية – المصرية، التي يؤسسها الجوار الجغرافي، ويدعمها النيل، والأمن القومي، والتاريخ المشترك، والثقافة، والمصالح الاقتصادية، فإن هذه العلاقات، على الصعيدين الرسمي والشعبي، قد اتخذت أشكالًا وعناوين مختلفة، بدء من الكفاح المشترك، ووحدة وادي النيل، أو وحدة القطرين تحت التاج المصري، بلغت أرقى مستوى لها، بمعايير العمل الوحدوي، في سياق المد القومي التحرري الخمسيني، الذي بلغ ذروته في نهاية الستينيات، على عهد الرئيس جمال عبدالناصر، بالاتحاد الثلاثي، الذي ضم السودان ومصر وليبيا عام 1970. وهي ثاني تجربة وحدوية في التاريخ الحديث، بعد الجمهورية العربية المتحدة، التي ضمت سوريا ومصر عام 1958. وشهدت هذه الفترة، من حكم الرئيس الأسبق، جعفر النميري، توقيع اتفاق دفاع مشترك، واتفاقات اقتصادية، للتكامل بين البلدين.
لكن فترات الجزر في تلك العلاقة، لم تبلغ حد القطيعة، ومن ثم لم تخل من توجهات اتحادية، أيًا كانت، تستمد من ثوابت العلاقة الثنائية. فلقد طرح الحكم، خلال الديموقراطية الثالثة، في مرحلة ما بعد نميري، ما أسماه بميثاق الإخاء، كبديل للتكامل الاقتصادي، والتقارب السياسي، والتحالف الأمني والعسكري، وغير ذلك من سياسات، في سياق ما عرف، آنذاك “بإزالة آثار مايو”. وعلى خلفية الموقف من نظام نميري، الحليف للقاهرة، في فترتي حكم الرئيسين، جمال عبد الناصر وأنور السادات، وتأثيراتها، تدهورت العلاقة مع مصر. غير أن محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، الفاشلة، في أديس أبابا، فيما بعد، التي تورط فيها حكم الإسلاميين، في تسعينيات القرن الماضي، أدت إلى تدهور حاد في العلاقة بين البلدين، إلى أدنى مستوى، شمل ضم مصر مثلث حلايب. مما لا يخلو من المغزى، في هذا السياق، أن بروز التنازع حول حلايب، لأول مرة عام 1958، لم يمنع السودان، بعد بضع سنوات، من التنازل عن مدينة وادي حلفا، في أقصى الشمال، لتغمرها مياه السد العالي، الذي أنشأته مصر في أسوان. ومع أن سياسات قسمة وإدارة مياه النيل، التي أثيرت وسط بلدان حوض النيل، كانت قمينة بأن تدفع لمزيد من التقارب، بين البلدين، وتخطي أي جفوة بينهما، إلا أن قيام سد النهضة، كان الأقوى دفعًا للتنسيق بين البلدين لمواجهة المشروع الأثيوبي. ومع ذلك شهد التقارب المتجدد، أواخر عهد الإسلاميين، سياسات جديدة، في مقدمتها اتفاقية الحريات الأربع.
مع المهام، التي تطرحها نهاية الحرب المرتقبة، فإن ترقية وإعادة تأسيس العلاقات مع مصر، بدء من التكامل وانتهاء بوحدة وادي النيل، ينبغي أن تتصدر برنامج إعادة إعمار ما دمرته الحرب. أن تقدم هذه المهمة في جدول الأعمال الوطني الانتقالي، يحتمه أهمية المصالح الحيوية، غير القابلة للتأجيل، التي تنطوي عليها تلك العلاقات. ولأهمية الدور، الذي ينتظران تقوم به مصر، في تسوية النزاع، كما في إعادة الإعمار. يقتضي الأمر وضع العلاقات بين البلدين في صيغة متفق عليها، على قاعدة من الوضوح، المستند لمراجعة التجارب السابقة، وتراث العلاقة الثنائية، بروح النقد والنقد الذاتي، لإعادة بنائها على قواعد الوضوح، وللحيلولة دون ترديها في التجريب، أو الأخطاء أو سوء الفهم. أن التصميم، الذي سيتم اقتراحه، بالنتيجة، إطارًا لعلاقة تكاملية، يمكن أن ينفتح على أقطار أخرى، مثلما يمكن أن يكون نموذجًا للعمل العربي المشترك، في المرحلة الراهنة. ومن شأن إدارة حوارات حوله، وسط القوى الوطنية في البلدين، أن تنأى بمثل هذا الإطار عن الانعزال الفوقي، وأن تربطه بتطلعات القاعدة الشعبية.
Leave a Reply