
بقلم: د. أشرف مبارك أحمد صالح
#ملف_الهدف_الثقافي
نحاول في هذا النص قراءة البنية المسرحية في شعر محمد طه القدال، عبر تحليل لبعض من قصائده، التي مثّلت تحولًا نوعيًا في القصيدة العامية المقاومة، التي مزجت في مفرداتها ما بين الحداثة والمفردة الريفية والبدوية، وتماهى فيها السرد الشعري مع الفعل المسرحي، منتجًا شكلًا جديدًا من التعبير الفني المرتبط بالناس والواقع.
1. القدال: صوت شعري للمقاومة
يُعد محمد طه القدّال أحد فرسان شعر العامية المقاوم في السودان، إلى جانب محجوب شريف، وحميد، وأزهري محمد علي. شكّلوا ما يمكن تسميته بـ”مثلث الوعي الشعبي”، أو لنقل “مربع الوعي”، حيث كانت قصائدهم تنبض بالناس والشارع، وتحمل هموم الوطن، وتواجه القهر والاستبداد بالشعر والكلمة الصلبة والساخرة.
وُلد القدال في مطلع خمسينيات القرن الماضي في قرية حليوة بولاية الجزيرة، وتوفي في 4 يوليو 2021 عن عمر ناهز 70 عامًا. نشأ في بيئة صوفية وزراعية متأثرة بثقافة الريف السوداني، مما ترك بصمته على نبرة شعره ومفرداته الغنية. هجر دراسة الطب وهو في السنة الرابعة، ثم درس العلوم الإدارية بجامعة الخرطوم، لكنه انصرف عن العمل البيروقراطي إلى الشعر والثقافة.
كتب بالعامية، لكن بروح حداثية تعانق وجدان الناس وتلامس قضاياهم. بدأ مسيرته الشعرية في نهاية ستينيات القرن العشرين، لكن نجمه سطع بقوة في بداية الثمانينيات، لا سيما عبر البرنامج التلفزيوني الشهير “محطة التلفزيون الأهلية”. وكان من أبرز شعراء الانتفاضة الشعبية، التي أسقطت حكم جعفر النميري عام 1985.
شخصيًا، أحتفظ بذكرى خاصة معه من لقائي به في حليوة، في مناسبة زواج عمي عباس. كنت حينها طالبًا في الثانوية، وسألني إن كانت رغبتي في دراسة الطب ذاتية أم مفروضة من الأهل، وأكد لي أن يكون ذلك نابعًا من رغبة ذاتية أهم. كان النقاش في تلك الليلة بينه وبين والدي يدور حول طبيعة إلقائه الشعري، وهل فيه نبرة شايقية واضحة، لكني كنت أرى أداءه مسرحيًا، واليوم أستطيع أن أقرأ أن المسرحة في البناء الفني لشعره.
2. العنوان بوصفه مفتاحا دراميا
في قصيدة “أبو السرة لليانكي”، لا يكون العنوان مجرد تسمية، بل بداية لمشهد مسرحي. أبو السرة واليانكي يمثلان شخصيتين رمزيتين متقابلتين: صوت شعبي محلي مقابل قوة استعمارية/اقتصادية خارجية. بهذا التحديد المبكر، يعلن القدّال أن القصيدة ستكون مواجهة درامية داخلية وخارجية، يتصارع فيها الجسد والرمز، والهوية والمستعمِر.
3. تهيئة المسرح وتتابع المشاهد
منذ الأسطر الأولى، يهيئ الشاعر المسرح الشعري.
تبدأ القصيدة بمقدمة عاطفية عميقة لكنها سرعان ما تنتقل إلى تهيئة المسرح للمواجهة الكبرى. هنا يبدأ الرحيل الداخلي، حيث تتحول الذات إلى مشهد مفتوح للضياع، ويتمدد النص في مشاهد متلاحقة، محكومة بإيقاع مشهدي يشبه تحرك الكاميرا المسرحية من فضاء إلى آخر، دون أن يفقد النص توتره.
4. الحوار وتعدد الأصوات
يتحوّل السرد إلى حوار حي، يُبرز ملامح الشخصيات وتعقيدات الصراع. هذا ما نراه في التبدلات الصوتية داخل “أبو السرة”.
هذا الحوار يخلق حركة درامية داخل النص، ويُدخل أصواتًا متعددة تشارك في بناء المعنى.
5. الأصوات والحركة
يُدخل القدال حركات وصوتيات تُجسد المشهد. في قصيدة “خمسين سنة – السيل”، نسمع صوت الحائط ينهار:
“أردَرُب”
هذا الصوت يُحيل إلى مشهد بصري/سمعي، يُشبه العرض السينمائي أو المسرحي.
6. الرمزية والشخصيات الكونية
غالبًا ما تكون الشخصيات رمزية. “أبو السرة” يرمز إلى الإنسان السوداني المقاوم/المُغترب، و”اليانكي” رمز للرأسمالية المعولمة. نرى ذروة مسرحية عالية في هذه المقاطع. لنرى في هذا المسرح اتحاد الشعوب المغلوبة على أمرها والتداخل مع مأساة صبرا وشاتيلا.
7. نماذج أخرى من المسرحة الشعرية
في قصيدة “خمسين سنة – السيل”، ينتقل القدال من وصف كارثة طبيعية إلى حوار درامي بين أحمد وأبيه، ثم زوجته، في بنية درامية متكاملة.
في “كلام الرتينة بت سالم”، تتقاطع العلاقة العاطفية مع الاجتماعي، وتبتعد عن الغنائية إلى تجسيد مسرحي للمحبوبة.
في “بنينة الشعراء”، نواجه استجوابًا شعريًا داخليًا يتصاعد حتى الانفجار، مشكّلا مواجهة مع سلطة القمع.
8. الخاتمة: المسرحة كأسلوب لا كاستثناء
البناء المسرحي في شعر محمد طه القدّال ليس تقنية عابرة، بل أسلوب كتابة وأداء ورؤية. لقد نجح في نقل الشعر العامي من طابعه الغنائي الذاتي إلى فضاء درامي حي، تُبنى فيه القصيدة بوصفها مسرحًا، يتحرك فيه النص بين الشخصيات والصراعات والمواقف، خدمةً لرؤية إنسانية وجمالية وفكرية.
مصادر:
1. عادل سعد يوسف. 2021. “التقنيات المعمارية في شعرية محمد طه القدال – مسدار أبو السرة لليانكي”، صحيفة مداميك.
2. محمد المهدي بشرى. 2021. “شعرية محمد طه القدال.. جدلية الأصالة والمعاصرة”، صحيفة مداميك.
3. محمد الفاتح أبو عاقلة. 2021. “حرفية الألفاظ ونظمها وأدائها عند القدال”، ورقة تأبينية – مدنية نيوز.
4. موقع أوراق – مجموعة قصائد للشاعر محمد طه القدال.
Leave a Reply