
بقلم: أمجد السيد
#ملف_الهدف_الثقافي
فات الأوان ليست مجرد أغنية عاطفية عابرة بل هي سفر وجدانيٌ مكتمل الأركان يتوسد الكلمات كأنها نبضات قلب ويستظل بالأداء الطافح بالشجن، الذي تفرد به الفنان الراحل صلاح بن البادية، الذي عرف كيف يجعل من الحزن غناءً، ومن الحسرة صلاة تُتلى في مقام الفقد.
تبدأ الأغنية بعبارة صادمة لا تمهيد فيها ولا هوادة
“فات الأوان.. والـ انكتب على جبينا الليلة بان”.
الجملة تحمل وقع السقوط الأخير ذلك النوع من الفقد، الذي لا رجعة منه. لا مواربة في التعبير، ولا رتوش بلاغية تحجب الألم. الكلمات تقف عارية أمام المستمع ترش الملح على جرح لا يريد أن يندمل.
الشاعر محمد يوسف موسى نسج الكلمات بخيط رفيع بين الوجع والدهشة. دهشة أن ينتهي الحب رغم قرب المسافات ورغم حرارة اللمسات. المفارقة الأليمة تترسخ في قوله:
“نحن القراب لا رعشة لا لمسة حنان”،
وكأن القرب فيزيائي لكنه يفتقد الروح الغياب هنا ليس بعدًا بل جفاف في صلب الحضور.
تكمن جمالية النص في أنه لا يكتفي بالوصف، بل يحكي ويُسائل، يسترجع ويتألم يحاول أن يفهم.
يقول
“ما قادر أصدق إنو نحنا أوانا فات”،
كأن الفقد مفاجئ لم يُمهد له الوقت ولا تهيأت له القلوب. والدهشة هنا ليست عدم التصديق فقط بل هي حالة إنكار وجدانية، ردة فعل المحب حين يخذله القدر.
ويصل الذروة حين يقول:
“شيّع غرامنا الـ إتولد ساعته اللي مات”،
ما أروع هذا التصوير. قصة حب تبدأ وتموت في اللحظة نفسها كأنها وميض برق لم يستطع أن يصير نورًا دائمًا. جُملة واحدة تحكي عن الحب في زمن مستحيل.
في مقطع بالغ العذوبة والمرارة، يقول الشاعر
“أنا عشت من قبلك غريب، ما عرفت تقدير الزمن…”
ثم:
“يوم ما عرفتك، كان سنين العمر ولن وانتهن”.
هنا لا يتغنى بالحب كحالة فقط بل كتحول وجودي. الحب لم يكن حدثًا عاطفيًا، بل فاصلًا بين زمنين، قبله التيه وبعده اكتمال المعنى. ومع ذلك، فإن جمال اللحظة لم يشفع لبقائها. إذ يواصل الشاعر تقليب الذكرى في حسرة
“ليه ما عرفتك من زمان؟”،
تساؤل بسيط في لغته، لكنه يعادل ديوانا من المراثي.
الختام يحمل طبيعة مأساوية تقرب الأغنية من التراجيديا الكلاسيكية.
“قول الوداع.. فات الأوان، ياريتو فات قبل الأوان”.
عبارة تنسف كل تصور عن الحكمة المتأخرة أو العزاء المتأخر. فحتى الوداع لم يعد له توقيته المناسب. وبهذا تسدل القصيدة ستارها على قلب مثقل بالحسرة غير قادر حتى على الوداع في توقيته الصحيح.
صلاح بن البادية.. صوتٌ يُشبه الغيم حين يبكي
إن أداء صلاح بن البادية لهذه الكلمات يجعل منها طقسًا وجدانيًا، صوته العميق المشبع بالتجربة لا يغني فحسب بل يُصلي يتحول النص إلى تلاوة والحنين إلى مقام موسيقي يتسرب في العصب.
كان بن البادية قادرًا على أن يحول الشجن إلى لوحة والمفردة إلى جسد حيّ أداؤه لم يكن ترجيع ألحان بل انفعالًا وجوديًا يملأ الفضاء ويترك الصمت من بعده كئيبا
“فات الأوان” ليست فقط أغنية عن حب خاسر بل هي درس في الزمن في الحنين في التأخر القاتل إنها قصيدة من مقام الحزن النبيل حيث تنقلب اللذة إلى ألم ويتحول اللقاء إلى عبور خاطف في دهاليز الفقد.
وحده الفن، الذي يخرج من رحم القلب الصادق، يظل قابلًا للقراءة والتأمل مهما تغير الزمن.
وها نحن اليوم نقرأ هذه الأغنية كأنها كُتبت للتو، ونحزن معها كأنها تحكي وجعنا الآن.
Leave a Reply