الباشكاتب يموت مرتين

بقلم: محمد شريف

#ملف_الهدف_الثقافي

في أحد أروقة الإدارة السودانية العتيقة، كان الباشكاتب يجلس على مكتبه الخشبي، تحيط به المكاتبات ذات الحواشي المتقنة، والمساطر المعدنية، وختم المؤسسة الذي لا يُختم شيء بدونه. كان هذا الرجل يعرف كل شيء، ويتحدث بلغة مهيبة تبدأ بـ”نشير إلي خطابكم الكريم…” وتنتهي بـ”وتفضلوا بقبول فائق الاحترام”. لم يكن يُنظر إليه كمجرد موظف، بل ككاهن إداري يفسّر لغة الدولة لمن لا يعرف قواعدها، ويُرتب الأمور وفق بروتوكولات غير مكتوبة، لكنه وحده يعرف حدودها وسحرها.

حتى سبعينات القرن الماضي، كانت وظيفة الباشكاتب في السودان من أكثر الوظائف احترامًا في الخدمة المدنية. لا تُرفع مخاطبة، ولا تُصرف بند مالي، ولا تُنظم حركة موظفين إلا من خلاله. لقد كان *”الكل في الكل”* بحق، بما يمتلكه من نفوذ لغوي، ومكانة إدارية، وسلطة غير رسمية تُؤمنها خبرته الطويلة وفهمه المعقّد للبيروقراطية السودانية.

لكن البيروقراطية لا تدوم… والمجتمع يتغير، وهكذا بدأت أولى علامات تراجع “سلطنة الباشكاتب”.

# الموتة الأولى: الإصلاحات الإدارية تطرق الباب

جاءت الثمانينات محمّلة بشعارات “الإصلاح والتحديث”، وفي طليعتها إعادة هيكلة الخدمة المدنية، التي كانت متهالكة بفعل التسييس، والتكرار الوظيفي، ونقص الكفاءة. بدأ السعي الحثيث نحو تقليص النفوذ الفردي داخل المؤسسات، وإنشاء هياكل تنظيمية أكثر شفافية وفاعلية.

الباشكاتب، الذي كان يُختار غالبًا من ذوي الخبرة والأقدمية، وجد نفسه فجأة محاطًا بجيل جديد من الموظفين القادمين من الجامعات، مزودين بمعرفة نظرية ومهارات حاسوبية ناشئة. أصبح النقاش حول الكفاءة وليس الخبرة، وحول النتائج وليس الصياغة البلاغية.

من أبرز المتسببين في “الموتة الأولى”:
– وزارة الخدمة المدنية التي غيرت أنظمة الترقية والتوظيف.
– قطاع التعليم الذي أفرز أجيالًا تكتب بطريقة وظيفية مباشرة، دون الحاجة إلى “صنعة الباشكاتب”.
– المؤسسات الجديدة التي فضلت النظم المؤسسية على الحكمة الفردية المتراكمة.

ومع شيوع عبارة “انتهت دولة الباشكاتب”، كان المشهد الإداري يتحول، شيئًا فشيئًا، من الحرف إلى الرقم، ومن الختم اليدوي إلى البرمجيات، ومن الوجاهة إلى التخصص.

# الموتة الثانية: الذكاء الاصطناعي يسحب البساط

في السنوات الأخيرة، لم يعد خطاب التعيين يُصاغ بعد محاولات تنميق لغوي وتأريخ دستوري، بل يتم إنتاجه خلال ثوانٍ بواسطة برامج الذكاء الاصطناعي. أدوات مثل Copilot و*Chat-based platforms* باتت تكتب، تراجع، وتحسّن أي نص إداري بسرعة تفوق أقوى الباشكتبة في أوجهم.

لم يعد الموظف بحاجة إلى من يُعلّمهم عبارة “يرجى التكرم بالنظر”، أو يُدرّبهم على “الكتابة في خطاب رسمي”. الحواجز اللغوية التي كانت تحمي مكانة الباشكاتب سقطت، وصار يُنظر إلى الخطاب بوصفه أداة وظيفية لا فنًا إدارياً.

الذكاء الاصطناعي لم يلغِ فقط مهارات الباشكاتب، بل ألغى وجوده المؤسسي:
– المهارات اللغوية باتت مُدمجة آليًا.
– التنسيق الإداري أصبح مؤتمتًا وموزعًا بين فرق متعددة.
– مراجعة الصياغات تتم عبر خوارزميات، لا عبر “عين الباشكاتب الثاقبة”.

وهكذا، لم تكن الموتة الثانية مجرد تطور تقني، بل *إلغاء رمزي لوظيفة كانت تُمثّل الذاكرة الإدارية للمؤسسة*.

## بين رمزية الماضي وفعالية الحاضر

هل مات الباشكاتب تمامًا؟ الجواب ليس بسيطًا. هو لم يُدفن، لكنه تحوّل إلى وظيفة أخرى: مساعد إداري، مشغّل نظم، منسق مكاتبات إلكترونية… لم تعد له السلطة، ولا الحظوة، ولا الكرسي الهزاز الذي كان يهتز بانسجام مع قراراته.

ومع ذلك، تظل وظيفة الباشكاتب حاضرة في وجدان الخدمة المدنية السودانية بوصفها:
– رمزًا لفترة كان للكتابة الرسمية قدسية.
– مثالًا على السلطة الرمزية المبنية على اللغة والخبرة.
– تذكرة بما يمكن أن يحدث عندما تتحكم الفردانية البيروقراطية في المؤسسات.

ربما يعود الباشكاتب في لحظة انقطاع الكهرباء، أو خلل في النظام، ليُعيدنا إلى الملف الورقي، وإلى رشّة من “فائق الاحترام”.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.