«كهف الخريف»

بقلم: آدم كوداري
#ملف_الهدف_الثقافي
ما أغرب ذاك النهار الذي اكتست فيه سماء كادوقلي بغلالة من السحب الرمادية، فحجبت شمسها الاستوائية التي اعتاد الناس لهيبها. كان العالم يطوي أيام يونيو الأخيرة من عام 2024، والدفء لا يزال يلامس الأكتاف، إلا أن رياح الخريف بدت وكأنها تصرُّ على كتابة مشهد مغاير.

تناثرت أوراق الأشجار على الطرقات، تدفعها ريحٌ متقلبة، فتُحيي في الأرصفة قصصًا لم تُروَ بعد. في السوق العتيق للمدينة، هرع المارة إلى أفاريز الحوانيت، يتزاحمون تحت ظلالها الضيقة هربًا من قطرات المطر الأولى. وما هي إلا دقائق حتى سالت السماء على الأرض مطرًا غزيرًا، فاختلط صوت الرعد بدويّ المياه على الأسطح المعدنية، وعمَّ الصمت خشية البرق وخوفًا من انكشاف الضعف في لحظة خاطفة.

تجمّع الناس في حلقات صغيرة تحت المظلات، يراقبون المشهد وكأنهم يحفظون تفاصيله ليرووها يومًا. كانوا يتبادلون فناجين القهوة الساخنة، ينثرون روائح البخور في زوايا السوق، وكأنهم يزرعون ذاكرةً لا تهزمها الأيام. وحده ذاك الصبي، في ركن قصيٍّ من أحد الأفاريز، كان غريبًا عن كل هذا الضجيج الدافئ.

لم يتجاوز عامه الخامس عشر، ومع ذلك بدت على وجهه ملامح رجل أنهكه الحزن قبل أوانه. اتخذ من ركنٍ معتمٍ كهفًا خاصًا، يلوذ فيه من المطر لا ليحتمي من البلل، بل ليخفي داخله غيمًا آخر، أعتم من السماء ذاتها. كان يسأل نفسه: «أين أنا؟»

لم يعد يتذكر شكل الأشياء من حوله. الألوان تلاشت، صارت كلها رمادًا في عينيه الزائغتين. وفي خضم صمته، جاءه صوتٌ خافتٌ من عمق الفراغ: «أنت في كهف الشقاء.»

تلفّت الصبي حوله مرتعدًا، وهمس: «لماذا أنا هنا؟»
ردّ الصوت: «أنا مثلك؛ لا صاحب لي سوى وجعي. عالمي مظلمٌ بلا حراك، وصحبتك تخفف عني وحدةً امتدت حدَّ الموت.»

تمتم الصبي، كأنه يناجي نفسه: «كيف عرفت أنني هنا؟»
أجابه الصوت، ساخراً: «أولست الآن تواسيني بصمتك؟»
رفع الصبي رأسه قليلًا وقال برجاءٍ خافت: «بالله عليك، دعني وحدي.»
ضحك الصوت بمرارة: «لا تغضب… لو تعرف كيف يبدو وجهك الآن، مضحكٌ وأنت تفتش عن مخرجٍ لا وجود له. لا تخف، أنا مثلك أبحث عن خلاص.»

زفر الصبي ببطء، وعيناه تغوصان في برك المطر التي انعكست عليها السماء: «لا تشعل في روحي شوقًا كاذبًا. علّمني كيف أصبر، كيف أثبت، فأنا قد اتخذت من الشقاء دارًا لا تُغادر.»

وبين دوي الرعد وانهمار المطر، ظل الصوت يردّد: «هكذا نحن… نولد من رحم الخريف، ونسكن الكهوف، ونترك قلوبنا خارجًا، تنتظر صيفًا لن يأتي.»

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.