مع الوحدة السورية وضد التقسيم

د. يوسف مكي

سوريا مركز الكون، وبداية الأبجدية، ومنطلق عصر الفتوح، وتأسيس الدواوين العربية، وعاصمتها دمشق أقدم مدينة بالتاريخ، ستظل رغم جراحاتها، ومهما زلت بها المقادير، عصية على التدرر.

من سوريا، بدأت حركة اليقظة وعصر التنوير العربي، في تماه واضح مع المبادئ التي بشر بها عصر الأنوار الاوروبي، حيث روح القانون لمونتيسكيو، والعقد الاجتماعي لجان جاك روسو، واتفاقيتان، لجان لوك. من روح تلك الأفكار بدأ العرب، وتحديدا من بلاد الشام، يقظتهم المعاصرة، في مواجهة الاستبداد العثماني.

وحين انتهت الحرب العالمية الأولى، وتكشف الغدر الأوروبي، شهدت بلاد الشام، أول مواجهة عسكرية مع الاحتلال الفرنسي، في موقعة ميسلون، بقيادة الشهيد يوسف العظمة، في تمثل لدور المسيح عليه السلام، حيث المواجهة بين المحتل والمقاوم، غير متكافئة شكلا ومضمونا. وحسب للعظمة مقولته الخالدة: خشيت أن يكتب التاريخ أن الفرنسيين احتلوا سوريا من غير مقاومة.

في الأربعينيات من القرن الماضي، تولى فارس خوري، المسيحي الديانة، رئاسة الحكومة السورية، في ظل الاحتلال الفرنسي. وحين صعد الشعب السوري، من مطالبته بالاستقلال، تعلل الفرنسيون، بحماية المسيحيين، من الخطر الإسلامي. وكان جواب رئيس الحكومة جليا وحاسما: لا يوجد في سوريا مسيحيون، وكلنا مسلمون. قاد بنفسه مسيرة شعبية، عبرت شارع الصالحية، تهتف بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

هكذا فوتت وحدة الشعب السوري، الفرصة على الفرنسيين، وأجبرتهم على الاعتراف باستقلال البلاد، والرحيل عنها للأبد. ولتبدأ مرحلة الانقلابات العسكرية في سوريا، بانقلاب حسني الزعيم، وسامي الحفناوي، وأديب الشيشكلي. وكل انقلاب تقف خلفه أهداف، ويعمل لصالح جهة خارجية. تمسك السوريون، في زحمة تلك الانقلابات، بهويتهم، مازجين بين انتماء وطني لبلاد الشام، وانتماء أعلى للقومية العربية. ولم يفقدوا تلك البوصلة أبدا.

في الخمسينيات، طرح الرئيس الأمريكي، آيزنهاور حلفا عسكريا، أسماه ملء الفراغ، لم يتكلل بالنجاح. وفي نهاية الخمسينيات، اندلعت أول حرب أهلية في لبنان، وقفت خلفها بريطانيا وأمريكا، والهدف هو منح كميل شمعون، دورة رئاسية أخرى، خلافا للدستور اللبناني، الذي لا يسمح للرئيس، سوى بدورة واحدة. وكان المؤمل في حالة نجاح المخطط الغربي، أن يكون لبنان جزءا من حلف بغداد، وليشكل إسفينا مسموما في خاصرة دمشق.

لجأت سوريا إلى عروبتها، لصيانة أمنها الوطني، ولمواجهة التهديد التركي، الضاغط آنذاك على سوريا، كي تلتحق بحلف بغداد، فكانت أول وحدة عربية اندماجية بين مصر وسوريا.

في جميع المواجهات التي أشرنا لها، كان السوريون، على اختلاف طوائهم وتنوعهم الديني والمذهبي كتلة واحدة. وسوريا كما نعلم جميعا، وكما فصلنا في أحاديث سابقة، هي بلد التنوع، ففي جبل مصياف، ومدينة السلمية، وريف حماه تحصن الاسماعيليون. وفي الشمال، في مدينتي اللاذيقية وطرطوس، استقر العلويون. وفي جبل العرب، وحاضرته مدينة السويداء، استقر الموحدون الدروز. وفي دمشق، قريبا من البوابة الخلفية للمسجد الأموي، عاش أبناء الطائفية الشيعية الإثني عشرية.

والعجيب أن ما استقر من تشكل مذهبي، في سوريا، يعود معظمه إلى إرث الحاكم بأمر الله، بمعنى أنه في جله إرث فاطمي، وافد من أرض الكنانة، باستثناء المكون المسيحي والشيعي.

ظل التنوع الديني والمذهبي في سوريا، عامل إثراء وتخصيب للثقافة السورية، ولم يكن في يوم من الأيام عبئا عليها. الجميع وقفوا صفا واحدا في مناهضة الاستعمار الفرنسي: ابراهيم هنانو من حلب، وصالح العلي، من الساحل السوري، وسلطان الأطرش من جبل العرب.

الوضع الراهن، يحمل مخاطر تقسيم سوريا، إن لم يتدارك العقلاء تلك المخاطر، ويسهموا في تضميد الجراح. بالتأكيد ليس من شأن أي كان تحديد هوية من يقود السلطة في سوريا، فذلك شأن داخلي خالص. والسوريون وحدهم هم الأقدر على تقرير مستقبل بلادهم. لكن ذلك لا يمنع من الدعوة بالتي هي أحسن، لحقن الدماء، وأن يدرك الجميع أنه حين تسيل دماء السوريين، في حرب ليس لأغلبيتهم فيها ناقة ولا جمل، فإن كل دم يسيل يستدعى وراءه انتقاما وردود فعل يصعب التحكم فيها.

ما جرى في الأيام الماضية، في جبل العرب، بمحافظة السويداء، من قتل على الهوية، هو أمر خطير جدا. وكان ينبغي لحكومة الأمر الواقع في سوريا، تجنبه، والاستفادة من أحداث الشمال الغربي التي وقعت قبل عدة شهور، وقد ذهب ضحيتها الألاف من البشر.

استمرار الصراع في جبل العرب، يجر وراءه، مخاطر على دمشق ذاتها، حيث يتواجد الموحدون، في مدينة جرمانا، قريبا من مطار دمشق الدولي. في مواجهة نزيف الدم، ينبغي أن ننطلق من التسليم بتحريم الدم السوري، وبأن حروبا داخلية كهذه، لن يكون فيها رابح ومهزوم، فالدم المسكوب، وفي أي موقع هو في كل الاحوال دم سوري.

وعلى أهلنا في سوريا، أن يستحضروا ما جرى من أحداث في بلد عربي شقيق آخر، هو السودان. لقد كانت الخسارة، ولا تزال فادحة، بسبب الصراع بين الحكومة السودانية وقوات التدخل السريع. ورغم مرور أكثر من سنتين على تلك الحرب، لا يبدوا حتى هذه اللحظة وضع نهاية لها. والعاقل من يتعلم من تجارب غيره، فعسى أن تكون الأيام القادمة بردا وسلاما، على أهلنا في سوريا الحبيبة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.