قراءة في فلسفة الوجود: المقاومة كاستجابة للعدوان في بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي (يوليو 2025)

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

البيان لا يُقدّم مجرد ردٍّ سياسيّ على عدوان صهيوني جديد، بل يُؤسّس لنمط من التفكير الوجودي حول الكيفية التي بها تُصان الذات الجمعية. فحين يُعلن البيان أن (المواجهة تكون بإعادة الاعتبار للمقاومة)، فإنه لا يتحدث عن أداة تكتيكية، بل عن (خيار وجودي) تتأسس عليه هوية الأمة العربية نفسها.

المقاومة هنا ليست مجرد (ردّ فعل)، بل هي فعل تأسيسي، أي اللحظة التي تُستعاد فيها الإرادة الحرة، ويُعاد فيها تشكيل العلاقة بين الجماعة السياسية والمصير التاريخي.

وبهذا المعنى، فإن البيان يُدرِك أن المشروع الصهيوني ليس استعمارًا تقليديًا بقدر ما هو (نفي للوجود الآخر)، أي مشروع يقوم على محو الآخر واستبداله، وليس فقط السيطرة عليه. وهذا ما يجعل من (المقاومة) فعلاً وجوديًا قبل أن تكون فعلاً سياسيًا.

يركز البيان على فكرة (توسيع دائرة المشاركة السياسية)، ويجعل من (إطلاق الحريات العامة) و(التحول الديمقراطي) شرطًا لـ(تصليب الأرضية الوطنية). وهنا تتبدى رؤية عميقة لفلسفة الدولة، إذ لم تعد السيادة تُفهم بوصفها احتكارًا للعنف المشروع فقط، بل بوصفها (عقدًا اجتماعيًا مرنًا ومتجددًا)، تنبني فيه الشرعية على التمثيل الشعبي، لا على أدوات الضبط السلطوية.

إن المقاومة الحقيقية، وفق البيان، لا تنفصل عن (تحصين الداخل)، وهو تعبير يحمل دلالة فلسفية عميقة: أن الدولة لا تُبنى بالرد العسكري فقط، بل ببناء (الذات السياسية) من الداخل، وإعادة ربط السلطة بالمجتمع، عبر آليات المشاركة، التعددية، والمساءلة.

مركزية الجماهير: الشعب كفاعل فلسفي لا كأداة سياسية، في قسم مهم من البيان، يؤكد حزب البعث على ضرورة (العودة إلى الجماهير)، ليس بوصفها كتلة ناخبة أو غاضبة، بل بوصفها (الفاعل الحاسم في تعديل موازين القوى). هنا، تتحول الجماهير من موضوع للسياسات إلى ذات فاعلة في التاريخ.

من منظور الفلسفة السياسية، هذا يُعيد إنتاج الدور الهيغلي للشعب في (روح الأمة العربية)، حيث لا تكون الدولة فوق الشعب، بل انعكاسًا لإرادته الأخلاقية الحرة. كما يُستدعى بذلك أيضًا مفهوم (غرامشي)، حول (الهيمنة)، حيث تصبح معركة التحرير معركة على (الوعي)، لا على السلاح فقط.

إذًا، لا مقاومة دون جماهير واعية، منظمة، ومحرّرة من (أطر تعليبها)، حسب تعبير البيان. والمقصود بذلك هو نقد التكلس السياسي، وتحويل الجماهير إلى أدوات دعائية، وهو ما يرفضه البيان ضمنيًا، داعيًا إلى (برنامج كفاحي) حقيقي، ينصهر فيه التحرر الوطني مع العدالة الاجتماعية والديمقراطية.

البيان يُشير إلى الطبيعة التوسعية للعدوان الصهيوني، ويُفكّك (وهم التسوية) بوصفه رضوخًا للغة لا يعترف بها العدو. فالمشروع الصهيوني، كما يُفهم من البيان، لا يسعى لحدود، بل يعمل بمنطق التمدد المستمر، عبر الاحتلال، أو عبر الغلاف الأمني، أو عبر التطبيع الاقتصادي والثقافي.

من هذا المنطلق، يُعاد طرح المشروع الصهيوني كـ (بنية نفي)، أي كقوة تسعى لإلغاء الآخر بالكامل، لا للتفاوض معه. وهو ما يُعطي للخطاب البعثي بعدًا هيدغريًا – إن جاز التعبير – حول (الوجود في وجه العدم)، حيث المقاومة ليست مجرد أداة، بل خيار ضد العدمية السياسية التي يمثلها العدو.

الارتباط بين القومي والوطني: هوية تتجاوز الحدود، البيان يعيد بناء العلاقة بين القومي والوطني، فلا يكتفي برؤية العدوان على سوريا في بعده المحلي، بل يوسعه إلى بعده العروبي، مُؤسِسًا لفكرة (الوطن القومي الواحد) الذي يهاجَم عضوًا عضوًا، بينما الجسد ما يزال متروكًا للتشظي.

وهنا تظهر مقاربة أقرب إلى (الأنطولوجيا القومية) التي تبناها الأستاذ ميشيل عفلق وساطع الحصري، حيث الأمة العربية ليست حدودًا سياسية، بل حقيقة ثقافية وحضارية تتجاوز الجغرافيا. ولذلك، فإن الدفاع عن سوريا، بحسب البيان، هو دفاع عن الأمة العربية، والعكس صحيح.

العدالة والمقاومة: الدولة الأخلاقية لا الأمنية، في ظل حديث البيان عن (مواجهة المشروع الصهيوني)، يظهر اشتراط واضح للعدالة السياسية، ومحاسبة من عبث بالأمن القومي. هذا يطرح سؤالًا فلسفيًا حول: أي دولة نريد؟ هل هي دولة أمنية أم دولة أخلاقية؟

البيان ينحاز بوضوح إلى ما يمكن تسميته بـ(الدولة الأخلاقية)، التي تَنتج من الشرعية لا من الغلبة، ومن المشاركة لا من الاحتكار. دولة تقوم على الحق، لا على القهر، وعلى التاريخ لا على اللحظة. وهنا تعود ثنائية سبينوزا في العلاقة بين (القوة) و(الحق)، إذ لا يكون الحق مجرد نتاج القوة، بل العكس، تصبح الدولة قوية لأنها محقة.

إعلان التعبئة العامة: من الردّ الدفاعي إلى الفعل الخلاق: دعوة القيادة إلى (إعلان التعبئة العامة) ليست دعوة انفعالية، بل ترتبط بفكرة فلسفية عميقة: أن الوجود القومي لا يُصان إلا حين يتحول الشعب من متفرج إلى فاعل، من جمهور إلى مشروع.

التعبئة العامة، كما تُطرح، ليست فقط تعبئة عسكرية، بل تعبئة روحية، ثقافية، سياسية، مجتمعية، تؤسس لتحول عميق في علاقة الإنسان العربي بالسلطة، بالهوية، وبالمعنى. وهي بهذا المعنى شكل من أشكال (الانبعاث الحضاري).

خاتمة: البيان كبنية فلسفية في لحظة الخطر: في النهاية، لا يمكن النظر إلى هذا البيان بوصفه مجرد خطاب حزبي أو إعلامي، بل يجب قراءته كبنية فلسفية في لحظة وجودية فارقة. إنه يعيد طرح السؤال الجوهري: كيف نحمي ذاتنا الجمعية من التفكك؟ ولعل الجواب الذي يقدّمه البيان هو التالي:

1. بالمقاومة لا بالمساومة.

2. بالشعب لا بالاستبداد.

3. بالعدالة لا بالانتقام.

4. وبالهوية المتجذرة لا بالحدود المرسومة.

هذه القراءة تُبيّن أن حزب البعث – في هذا البيان – لا يكتفي بأن يكون شاهدًا على عصر الانهيارات، بل يحاول أن يكون فاعلًا في صناعة بديل يليق بتضحيات الشعب العربي وميراثها العميق في مقاومة الاحتلال والاستلاب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.