المجموعات المسلحة شريكة الجيش.. من التحالف إلى الابتزاز السياسي

في مشهد سياسي سوداني يتداعى فيه جسد الدولة إلى جزر نفوذ متصارعة، تحوّلت المجموعات والحركات المسلحة إلى لاعب مركزي في الصراع الدائر، بل و”شريك مُتحكّم” في هندسة مستقبل السلطة. لم تعد هذه الجماعات مجرد أدوات ميدانية في النزاعات؛ بل صارت تتقاسم القرار السياسي، وتفرض شروطها على المؤسسة العسكرية، وتُبتزّها تحت غطاء المشاركة في التسوية أو التهديد بالتصعيد. هذا التحقيق يلقي الضوء على التطور المثير للقلق لهذه القوات، بدءًا من أحدث صور ابتزازها للجيش رجوعًا إلى الجذور التاريخية لظاهرة “قوات الإسناد” التي أفرزت هذا الواقع المرير.
تحقيق: راينو
الابتزاز السياسي الأخير وتشكيل الحكومة الهشَّة
تبدأ القصة من حيث انتهت الأحداث مؤخرًا مع الموافقة المستمرة للفريق أول عبد الفتاح البرهان على شروط مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، وتلبية مطالبهما في التشكيل الحكومي. هذا القبول ليس قرارًا اعتباطيًا حسب الكثيرين، بل يعكس جملة من الأسباب والتوازنات المعقدة في المشهد السياسي والعسكري السوداني، خاصة في ظل الحرب المدمرة الدائرة حاليًا.
وفي الوقت الذي وصفت فيه هذه الموافقة بالـ ضرورة براجماتية التي فرضتها الظروف الحالية على البرهان، الذي يفضل تأمين حلفاء على الأرض وتقليل جبهات الصراع، حتى لو كان ذلك على حساب تلبية مطالب قد تبدو “ابتزازية” من منظور الدولة المركزية. إلا إنها توصف ايضا بالصفقة المؤقتة في سياق حرب وجودية، حيث يوازن البرهان بين التكلفة السياسية لتلبية هذه المطالب، والحاجة العسكرية المُلحة لدعم هذه القوى.
وطبقا للمحل السياسي الرافض لتحالف الجيش والاسلاميين والحركات المسلحة عمر سفيان سالم في حديثه لـ”راينو” فإن ثمة أسباب غير مبررة دفعت البرهان للقبول باشتراطات وابتزازات الحركات والمجمعات العسكرية التي تقتاتل إلى جانبه، اولها رغبته في الحكم ولو على حساب كل ما هو متعارف عليه من احترام للسلطة أو استقرار الدولة، فضلا عن الحاجة الماسة لدعم عسكري وسياسي، إذ أنه بعد اندلاع حرب أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أصبحت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، وعلى رأسها حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، لاعبين لا غنى عنهم، خصوصا عقب إعلانهما في مراحل مختلفة وقوفهما إلى جانب الجيش ضد الدعم السريع، وقال: هذا الدعم العسكري على الأرض، خاصة في مناطق غرب ووسط السودان، يُعد ضروريًا وحاسمًا للبرهان والجيش في سعيهما لهزيمة الدعم السريع. وأضاف: ولأن البرهان باحث بشراهة عن شرعية مفقودة، بالتالي لا يقتصر الأمر على الدعم العسكري فحسب، فمشاركة هذه الحركات في الحكومة تمنحها شرعية سياسية إضافية، وتُظهر تماسكًا لجبهة واسعة ضد الدعم السريع، مما يُعزز موقف البرهان في المحافل الإقليمية والدولية.
ويرى سفيان أن البرهان يسعى لتأكيد الالتزام بتنفيذ اتفاق جوبا الموقع عام 2020، وتجنب تصعيد جديد، حيث منح الاتفاق هذه الحركات حصصًا محددة في السلطة وبنودًا أمنية، بالتالي البرهان ملتزم بها حتى لو أثارت انتقادات حول المحاصصة. الأهم من ذلك، وأضاف: عدم تلبية مطالب هذه الحركات قد يدفعها إلى الانسحاب من العملية السياسية، أو ما هو أخطر، العودة إلى حمل السلاح ضد الحكومة، مما يخلق جبهات جديدة وصراعات إضافية لا يستطيع الجيش تحملها.
وأعتبر سفيان أنه لا يمكن إنكار أن بعض هذه الحركات، مثل حركة العدل والمساواة، تتمتع بنفوذ وسيطرة على موارد اقتصادية مهمة، وهذا النفوذ يمنحها قوة تفاوضية هائلة ويجعلها لاعبًا لا يمكن للبرهان تجاهله، واضاف: بالتالي سعي هذه الحركات للحصول على وزارات سيادية، كوزارتي المالية والمعادن مثلاً، ليس فقط للمكاسب السياسية، بل لضمان استمرار سيطرتها على الموارد الاقتصادية التي تمول أنشطتها وتحافظ على قوتها العسكرية.
وختم سالم حديثه بأن المشهد السوداني اليوم يتسم بتوازنات قوى هشة ومتغيرة باستمرار، وأن البرهان يدرك تمامًا أنه لا يملك رَفَاهيَة استعداء هذه الحركات في ظل حاجته الماسة للحلفاء. لذا، فإن موافقته على شروطها هي جزء من لعبة التحالفات المعقدة، وتهدف لضمان استقرار نسبي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، أو على الأقل منع هذه الحركات من التحول إلى خصوم جدد.

خارطة القوى المسلحة وتحديات التصنيف
يُعتبر هذا الابتزاز الأخير مجرد حلقة في سلسلة طويلة من تعقيدات المشهد العسكري السوداني. تتعدد وتتشظى الحركات المسلحة والمجموعات العسكرية في السودان، سواء تلك التي نشأت في مواجهة التهميش الإقليمي، أو التي نمت في حضن النظام البائد كأدوات قمع وتفكيك اجتماعي بإشراف مباشر من استخبارات الجيش. لتشكل هذه المجموعات جزءًا من المشهد السياسي والعسكري المعقد. ويكشف الكاتب مهادن الزعيم في مدونته، عن أنه وبالبحث في المجموعات المسلحة النشطة حاليًا، وجد أن المشهد معقد في توثيقها وتصنيفها. وقال: بينما يُقدّر عدد المجموعات بحوالي 73 كيانًا، لم يتسنَّ جمع سوى 48 شعارًا يعكس هويتها. واضاف: هذا النقص الكبير في “الهوية البصرية” يكشف عن حقيقة مرة وهي أن أغلب هذه المجموعات لا تولي اهتمامًا لمثل هذه التفاصيل، فكثيرًا ما تجدها تحمل الاسم ذاته وتستخدم شعارًا واحدًا، مما يجعل اسم القائد هو العلامة الفارقة الوحيدة.
وكشف مهادن عن أن المجمعات لعسكرية التي تكونت مؤخرا تبلغ 38 مجموعة، وان من بينها حوالي 31 مجموعة تمتلك شعارًا خاصًا بها. هذا التوجه قد يشير إلى سعي هذه الجماعات لترسيخ حضورها، واضاف: إنها مفارقة عجيبة: بينما تنهار دولتنا، تتقدم “البندقية” نحو المجد بخطوات ثابتة على صعيد التسويق البصري!
هذا الواقع يثير معضلة حقيقية: كيف يمكننا تصنيف هذه الميليشيات المتكاثرة؟ كل طريقة للتصنيف تقدم زاوية مختلفة لفهمها: هل نصنفها بناءً على عمرها الزمني (“قديمة” و”جديدة”)، أم العهد الذي تكونت فيه (“زمن البشير” أم “زمن البرهان”)، أم الجهة التي تتبع لها (قبلية أم “كيزانية”)، أم التوزيع الجغرافي (شرق، غرب، جنوب، شمال، وسط)، أم الأهم، الانحياز الحالي في الحرب (“مع الجيش” أم “مع الدعم السريع”)؟

تحوّل الشركاء إلى مبتزين
يبدو أن الجيش السوداني، الذي يمثل بقايا الدولة المركزية، بات محاصرًا بمطالب الفصائل المسلحة التي تتعامل مع أي ترتيبات حكومية كفرصة لتوسيع “نصيبها من الغنيمة”، وليس بوصفها مشروعًا وطنيًا لبناء الدولة. فبعد أن كان الجيش يستعين ببعض هذه القوات كـ “قوات إسناد” أو حلفاء لمواجهة تهديدات محددة، تحول الولاء إلى مصلحة، و”الشراكة” إلى “ابتزاز”.
مصدر عسكري رفيع سابقًا تحدث لـ”راينو”، مؤكدًا أن “الجيش يتعرض لضغوط من فصائل وقوى تدّعي تمثيل الهامش، تشترط تمثيلها الوزاري والمناطقي وتطالب بحقائب سيادية تحت التهديد بالانسحاب من المسار السياسي، أو خلق اضطرابات في مناطق نفوذها”. واضاف: هذا يوضح كيف أصبحت هذه الجماعات تستخدم نفوذها العسكري على الأرض كرافعة سياسية لتحقيق مكاسب غير مستحقة.
يرجع كثيرون هذا الواقع إلى إرث نظام البشير، الذي اتبع سياسة “فرّق تسد” عبر تسليح المجموعات القبلية وتحويل الحرب إلى اقتصاد. قام النظام بتحويل المجموعات من أدوات أمنية إلى حلفاء سياسيين، مما منحهم شرعية ونفوذًا سمح لهم لاحقًا بابتزاز الدولة. هذا التمكين الممنهج لقوى غير نظامية هو الجذر الأساسي للمشكلة.
وحسب متابعات”راينو” تشير تقارير موثوقة إلى أن بعض هذه المجموعات باتت تسيطر على مناجم الذهب في دارفور والنيل الأزرق، وتمد شبكاتها إلى تجارة السلاح والوقود، فضلاً عن الاتجار بالمساعدات الإنسانية في مناطق النزاع، بالتالي فإن استمرار الحرب يؤسس لاقتصاد حرب يشكل الوقود الذي يُبقي هذه المجموعات قوية ومستقلة، ويمنحها القدرة على فرض شروطها.
اتفاق جوبا للسلام: تسوية غير مكتملة والأجندة الاقتصادية للحركات
رغم توقيع اتفاق جوبا للسلام عام 2020، إلا أن بنود الترتيبات الأمنية (الدمج والتسريح وإعادة التأهيل) لم تُنفذ بالكامل. وبدلًا من تفكيك الميليشيات، جرى احتواؤها في الحكومة مع بقاء أذرعها العسكرية قائمة، لتتحول إلى “جماعات ضغط مسلحة” تطالب بامتيازات مقابل دعمها للحكم أو حيادها في الصراع. هذا الفشل في دمج المقاتلين يمثل نقطة ضعف استراتيجية استغلّتها الميليشيات بفعالية.
تستفيد العديد من هذه الحركات من بقاء السودان في حالة “لا سلم ولا حرب”، حيث تتيح الفوضى استمرار سيطرتها على طرق التجارة غير الشرعية، والمعابر الحدودية، ومناطق الإنتاج. ومع كل مبادرة سياسية، تعود هذه الفصائل إلى طاولة التفاوض بنفس شروطها، مدعومة بسلاحها وأموالها، مما يُحوّل السلطة إلى مجرد مورد اقتصادي يتقاتل عليه المتنافسون.
التمويل والدعم الخارجي: ولاءات عابرة للوطن
يشير خبراء إلى أن بعض هذه الجماعات تحظى بدعم إقليمي من دول تسعى لتوسيع نفوذها داخل السودان، أو ضمان مصالح اقتصادية واستراتيجية، مما يعقد عملية بناء جيش وطني موحد. ويتحول الدعم المالي إلى أداة سياسية بيد هذه الميليشيات لتقوية مواقعها، ويُقلّل من ولاءاتها للدولة السودانية ككل.

المرحلة الرابعة: الجذور التاريخية لـ “قوات الإسناد” في الجيش السوداني
إن الحديث عن “قوات الإسناد” في الجيش السوداني ليس مجرد الإشارة إلى ظاهرة حديثة، بل هو الغوص في تاريخ طويل ومعقد من التعايش، وأحيانًا التبعية المتبادلة، بين المؤسسة العسكرية الرسمية والقوى شبه العسكرية أو الميليشيات. لا يوجد تاريخ محدد لإنشاء “أول قوات إسناد” بالمعنى الذي نراه اليوم، بل هي ظاهرة تطورت وتعمقت جذورها عبر مراحل مختلفة من تاريخ السودان، بدءًا من حقبة الاستعمار وحتى يومنا هذا.
البدايات المبكرة: من القوات الرديفة إلى “فيلق السواكني”
لفهم هذه الجذور، علينا العودة إلى فترة ما قبل الاستقلال. فمع تأسيس قوات دفاع السودان (Sudan Defence Force – SDF) عام 1925 على يد الإدارة البريطانية، لم تكن هذه القوات مجرد جيش نظامي بحت. بل كانت تتضمن وحدات ذات طابع محلي، تمثل شكلاً مبكرًا من “القوات الرديفة”. هذه الوحدات كانت تُجنّد من مناطق وقبائل معينة، وتعتمد على ولاءات محلية لتنفيذ مهامها، مما أرسى أولى اللبنات لفكرة الاعتماد على قوى غير نظامية أو ذات طابع خاص.
حتى قبل ذلك، خلال الحكم التركي المصري والمهدية، كانت هناك دائمًا فرق قتالية تتشكل من المتطوعين أو القبائل المتحالفة التي تقاتل إلى جانب القوات المركزية. فمثلًا، في ثورة المهدية، كانت “جيوش القبائل” تمثل عمودًا فقريًا للحركة، حتى لو لم تكن جزءًا رسميًا من الجيش بالمعنى الحديث. هذا يؤكد أن فكرة الاستعانة بـ “قوى غير نظامية” ذات ولاءات خاصة لتعزيز القدرة القتالية للدولة أو الحركة المسيطرة، هي جزء متأصل في النسيج العسكري والاجتماعي للمنطقة. ويمكننا حتى أن نرى في “فيلق السواكني”، الذي تشكل من أبناء شرق السودان لخدمة الجيش المصري في القرن التاسع عشر، نموذجًا مبكرًا لقوات “إسناد” محلية ذات مهام محددة.
ما بعد الاستقلال: عندما أصبحت الضرورة السياسية أمًا للابتزاز
بعد استقلال السودان في عام 1956، ورغم بناء جيش وطني حديث، سرعان ما بدأت الأنظمة المتعاقبة، خاصة في ظل الصراعات الداخلية المتكررة، في اللجوء إلى تكوين أو دعم ميليشيات وقوات شبه عسكرية. لم يكن هذا مجرد خيار عسكري، بل كان غالبًا ضرورة سياسية فرضتها طبيعة الصراعات:
الاحتواء والتطويق للتمردات: مع اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب (1955-1972 ثم 1983-2005) وبعدها حرب دارفور (2003-الآن)، وجد الجيش السوداني نفسه في مواجهة حركات مسلحة ذات معرفة عميقة بالتضاريس المحلية ودعم شعبي في مناطقها. هنا، أصبحت الميليشيات المحلية أداة فعالة للوصول إلى مناطق يصعب على الجيش النظامي الوصول إليها، أو لشن حرب استنزاف بالوكالة. قوات مثل “المرتزقة العرب” أو “المراحيل” في الجنوب، ثم لاحقًا “الجنجويد” في دارفور، كلها كانت أذرعًا للجيش لتنفيذ مهام لا يستطيع أو لا يريد الجيش الرسمي الاضطلاع بها بشكل مباشر.
الدعم اللوجستي والأمني والاستخباري: لم يقتصر دور هذه القوات على القتال المباشر. بل كانت تُستخدم لتأمين الطرق، حماية القوافل، جمع المعلومات الاستخباراتية المحلية، وحتى لتنفيذ حملات “تطهير” عرقي أو طائفي في بعض الأحيان، بعيدًا عن المساءلة الرسمية.
تطويع الولاءات القبلية والسياسية: شهد عهد الرئيس السابق عمر البشير تحولًا جذريًا في طبيعة هذه العلاقة. فبدلًا من مجرد الاستعانة بقوات إسناد، قام النظام بتبني استراتيجية “حكم الميليشيات”. حيث تم تسليح وتدريب ودعم ميليشيات قبلية بوضوح، مثل الجنجويد التي تطورت فيما بعد إلى قوات الدعم السريع. الهدف لم يكن فقط عسكريًا، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع لـ “تفكيك المجتمع” و”استغلال الموارد” و”إحداث توازنات قوى جديدة” لضمان بقاء النظام. هذه الميليشيات أصبحت أدوات للضغط السياسي والاقتصادي، تمول نفسها من عائدات الحرب والنهب والسيطرة على مناجم الذهب، لتتحول تدريجيًا من مجرد “قوات إسناد” إلى قوى موازية تمتلك نفوذًا يبتز الدولة ذاتها.
قوات الدفاع الشعبي: نقطة تحول نحو “الأدلجة”
في التسعينيات، شهدت ظاهرة “قوات الإسناد” نقطة تحول مهمة مع إنشاء قوات الدفاع الشعبي. هذه القوات لم تكن مجرد ميليشيات قبلية، بل كانت ذراعًا أيديولوجيًا لنظام الإنقاذ، تُجند وتُدرب على أسس عقائدية، وكانت تمثل دعمًا شعبيًا مسلحًا للجيش، لكنها في جوهرها كانت أيضًا أداة للسيطرة السياسية. لقد كانت هذه القوات، رغم كونها “شعبية”، تخضع لتوجيهات مركزية وكانت جزءًا من استراتيجية النظام للحرب الشاملة.
من الإسناد إلى الابتزاز: صعود الدعم السريع كنموذج
الذروة في تطور هذه الظاهرة تجلت في صعود قوات الدعم السريع. هذه القوات، التي بدأت كـ “جنجويد” في دارفور، تم دمجها لاحقًا ضمن هياكل الدولة كقوات نظامية، بل وحصلت على قانون خاص يمنحها شرعية واسعة، مما جعلها تتجاوز مفهوم الإسناد إلى “القوة الموازية” التي تنافس الجيش على السلطة والموارد. هذا التطور الدراماتيكي هو ما أوصل السودان إلى الصراع الحالي، حيث أصبحت القوة التي كانت يومًا ما ذراعًا للجيش، هي الآن عدوه اللدود، ونموذجًا حيًا لكيف يمكن أن تتحول قوات الإسناد إلى مصدر لتهديد الدولة ذاتها وابتزازها سياسيًا واقتصاديًا.

خاتمة: هل من أفق لإعادة الهيكلة؟
إن جذور قوات الإسناد في الجيش السوداني لا تكمن في تاريخ واحد، بل في مسار طويل من الضرورات العسكرية، المناورات السياسية، والاستغلال الاقتصادي، الذي أدى إلى بناء شبكة معقدة من القوى المسلحة التي باتت تشكل تحديًا وجوديًا للدولة السودانية الحديثة.
إذا استمر الجيش السوداني في محاولة إدارة الدولة عبر مقايضات مع هذه الجماعات المسلحة، فإن فرص قيام دولة مدنية موحدة تذوب تدريجياً. ويتطلب الخروج من هذا المأزق إعادة بناء مشروع وطني يرتكز على رؤية واضحة ومُوحّدة:
دمج حقيقي للميليشيات في جيش قومي موحد: يجب أن تكون هذه العملية شاملة وصارمة، مع تفكيك الهياكل العسكرية للميليشيات بالكامل.
مراجعة اتفاق جوبا بشكل جاد مع أطراف جديدة ومستقلة: إعادة النظر في الاتفاقيات التي لم تحقق أهدافها الأمنية.
تفكيك الاقتصاد الحربي للميليشيات عبر تشريعات وإجراءات أمنية صارمة: تجفيف منابع تمويل هذه الجماعات هو خطوة حاسمة.
دعم دولي غير منحاز لإعادة هيكلة الجيش ومؤسسات الحكم: يجب أن يكون الدعم الدولي موجهًا نحو بناء مؤسسات الدولة لا نحو دعم الأطراف المتصارعة.
ما لم يحدث ذلك، فإن السودان سيظل ساحة مفتوحة للميليشيات، تبتز الدولة وتستثمر في فشلها، وتتحول من “قوات إسناد” إلى قوى تفرض إرادتها على مصير البلاد. فهل يستطيع السودان كسر هذه الدائرة المفرغة وبناء جيش وطني حقيقي يخدم الدولة لا الأجندات الخاصة؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.