
إسماعيل مضوي
#ملف_الهدف_الثقافي
هل يصلح بروفيسورات كامل إدريس ما أفسده بروفيسورات نميري؟
عندما قرر نميري تعيين الوزراء من بروفيسورات جامعة الخرطوم، والذين كان عددهم في ذلك الزمن لا يتعدي العشرين، حيث كان يعرف البروفيسور بكليته التي تفاخر به، فيقال مصطفي حسن في العلوم، وعبد الله الطيب ومكي شبيكة في الآداب، وعمر عثمان في الاقتصاد، ومحمد عبد الله نور في الزراعة، وأحمد محمد الحسن وداؤد مصطفي في الطب، والنذير في البيطرة، والعاقب ودفع الله الترابي في الهندسة، ويضحك طلاب هذه الكليات كثيرًا على طلاب القانون والصيدلة الذين لم يكن لهم بروفيسورًا يتباهون به مع الآخرين!
كان اعتقاد نميري الجازم بأن هؤلاء العلماء الأجلاء سيأتون بما لم يأت به وزراء من قبلهم في العهد الحزبي، الذي انقلب عليه بليل بهيم. بعد مرور الوقت، ومع قلة المردود من مجموعة البروفيسورات بدأ النميري يضيق بهم ذرعًا، ويسعى للتخلص منهم، واللجوء إلى التعليقات السالبة على تقاريرهم أمام مجلس الوزراء..
أحد هؤلاء الوزراء البروفيسورات كان وزيرًا لأحد وزارت القطاع الاقتصادي المهمة، والتي كان يعول عليها في إحداث التنمية التي بشرت بها مايو الظافرة المنتصرة، كما كان يحلو لنميري وصفها في خطبه. ذلك الوزير عرف عنه نبوغه وتفوقه في الرياضيات منذ كان طالبًا حتى نال درجة الأستاذية في علم الهندسة، وكان مشهورًا “بالتضريبات”، فإذا قلت له إنك ستبني صالونًا وغرفتين بأبعاد معينة مع برنتدين ومنافع وحوش، فإنه يسرح لبرهة ويقول لك جدول الكميات من الطوب والخرسانة والرمل، وتكون صحيحة بلا زيادة ولا نقصان.. كان ذلك البروف المولع بلغة الأرقام كلما انعقد مجلس الوزراء يجلس وأمامه مسطرة حاسبة.. طبعًا الزمن داك لم تظهر الآلات الحاسبة المحمولة ولا الكومبيوترات، فيقوم باستخدام مسطرته الحاسبة لترجمة إحصائيات تقارير بعض الوزراء إلى أرقام.. فإذا تحدث البروف وزير الزراعة عن خطة الموسم الزراعي، وكم من الأفدنة ستزرع من قطن وذرة وسمسم وفول ودخن، وكم متوسط إنتاجية الفدان المتوقعة، يلجأ البروف إلى مسطرته التي أمامه، ويذكر كم بالة من القطن ستنتج، وكم طن من الفول والسمسم والدخن والكركدي والصمغ العربي، ويضرب أرقام الإنتاج المتوقعة في السعر العالمي لكل سلعة بالدولار، ويحول ذلك إلى الجنيه السوداني الذي كان في قمة مجده، حيث كان يساوي أكثر من ثلاث دولارات، ويفوق الجنيه الإسترليني بعشرة قروش بعد تعويم تاتشر له، فتبدو الأرقام بالجنيه السوداني أكثر احترامًا من الدولار، الذي انقلب آخر عهد نميري على الجنيه السوداني مثل انقلاب نميري على الديمقراطية، فحوله من أسد هصور إلى أسد عجوز، وجاءت الإنقاذ فحولته إلى قط عجوز ومريض.. بناء على تلك الأرقام كان يبدو الارتياح على وجه القائد والرئيس نميري كما كان ينادى.. وينتهي الموسم فلا قطنًا أنتج ولا فولا ولا ذرة، ولا صمغًا أو كركدي قد صُدّر بعد إعلان التأميم والمصادرة، لأن الأساتذة الأجلاء يعملون على قول المثل “عصيدة وملاحها في الريف”، دون أن يضعوا في توقعاتهم معدل الأمطار في الزراعة الآلية، ولا مشاكل مدخلات الإنتاج والأمراض التي قد تصيب القطن، مثل مرض الساق الأسود او عسلة القطن، إلى آخر قائمة الأمراض التي تصاحب كل محصول..
بدأ نميري يتضايق من أرقام مسطرة البروفيسور التي لم تصدق ولا مرة.. وفي اجتماع للمجلس بقيادة نميري لمناقشة خطة الإنتاج للعام المقبل، بدأ البروف يجهز مسطرته لزرع الأحلام والأوهام.. فما كان من نميري إلا وانفجر في وجهه قائلا “والله غير مسطرتك دي يا فلان، باسمه مجردًا من لقب بروف التي اعتاد سماعها منه، شي جاب لينا النحس ما في، خلينا منها)..
لملم البروف مسطرته وعلم بدنو أجله الوزاري، حيث أعلن نميري في نفس اليوم تعديلا وزاريًا خرج بموجبه أربعة من بروفيسورات ذلك التشكيل الوزاري، وعلى رأسهم صاحب المسطرة، واضعًا حدًا لاستوزار البروفات إلى زمن طويل، بعد قناعته بانهم ليسوا هم الأحق لتحقيق شعارات انقلابه الذي اسماه ثورة.
والشيء بالشيء يذكر، للمرحوم زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر قولة يحكيها دومًا، يقول “والله لما كنت ضابطًا بالجيش قبل ثورة مايو، عندما استمع إلى نشرة الأخبار وترد كلمة بروفيسور قبل اسم صاحبها، كأن يقول المذيع استقبل البروفيسور النذير دفع الله، مدير جامعة الخرطوم، كنت أقف انتباهًا حتى اكتمال الخبر. وبعد الثورة ومجيء هؤلاء البروفيسورات للاستوزار ورايت كيف كان مردودهم وتعامل نميري معهم، ندمت على كل لحظة انتباه ووقفة تحية وإجلال للقب العلمي الرفيع، صرت عندما اسمع الكلمة أمام الاسم أضحك وأقول في نفسي بروفيسور في الجامعة مش في الحكومة!”.
كسرة: إذا كان ذلك مردود تجربة بروفيسورات جعفر نميري والذين كانوا مثل الجنيه السوداني وقتها في قوته، فما بالك اليوم ببروفيسورات حكومة الأمل بقيادة البروفيسور كامل إدريس في هذا الزمن العجيب، حيث أصبح عددهم في كل جامعة بعدد جنيهات الجنيه السوداني أمام الدولار. وقد صدق المثل (من جرّب المجرّب حاقت به الندامة). الذي سيجرب هنا هو الشعب السوداني المغلوب على أمره، والذي حوله العسكر إلى ما يشبه فأر المعامل.
اللهم اجعل لهذا الشعب من أمره مخرجًا، واصرف عنّا هؤلاء البروفيسورات، المزيف منهم والحقيقي، إلى مدارج علمهم، ووقي الشعب السوداني شرور تجربتهم المحكوم عليها مقدمًا بالفشل.
Leave a Reply