الثقافة ليست ترفًا.. إنها معركة إفريقيا القادمة

زكريا نمر
#ملف_الهدف_الثقافي
تُعدّ الثقافة من أبرز الركائز التي يقوم عليها بناء الإنسان السليم، فهي ليست مجرد تراكم للمعرفة أو الاطلاع على الفنون والآداب، بل هي جوهرٌ حيّ يشكّل الوعي ويوجه الفكر ويصوغ رؤية الإنسان للعالم من حوله. إن الثقافة، حين تُغرس في النفس، تُنبت وعيًا ناضجًا يجعل الإنسان أكثر قدرة على الفهم، والحوار، والتعايش مع الآخر، مهما اختلفت أصوله أو معتقداته.
وعندما نصل إلى مرحلة الاعتراف بثقافات الآخرين، لا بوصفها غريبة أو هامشية، بل كجزء لا يتجزأ من النسيج الإنساني العام، نكون قد بدأنا رحلة الارتقاء الحقيقي. هذا الاعتراف لا يعني فقط فتح الأبواب أمام التعدد والاختلاف، بل هو دعوة إلى إعادة اكتشاف الذات من خلال مرآة الآخر. فكم من مجتمع بسيط أو قبيلة منسية حملت في قصصها وحكمتها ما لم تحمله كتب الفلاسفة أو مناهج الأكاديميين!
تزخر المجتمعات الإفريقية والعربية بثقافات عريقة، ضاربة في جذور التاريخ، تحوي من الغنى الرمزي والمعرفي ما يمكن أن يكون رافعة حقيقية للنهضة. غير أن هذه الثقافات، وللأسف، عانت ولا تزال تعاني من عوامل متعددة ساهمت في تهميشها أو تجميدها. فالجهل، والتخلف، وغياب مشاريع التنمية الثقافية، أدّت إلى انقطاعٍ بين الأجيال وبين موروثهم، كما أن الكثير من هذه الثقافات لم تُطوّر لتواكب العصر، بل تُركت في حالتها البدائية، وكأنها مجرد تراث شعبي للعرض وليس للعيش والفعل.
ومن أبرز العوامل التي ساهمت في ذلك، الدور العنيف الذي لعبه الاستعمار الأوروبي، والذي لم يكتفِ بنهب الثروات، بل سعى إلى تفكيك الهوية الثقافية للشعوب المستعمَرة، من خلال فرض لغاته وتهميش لغات السكان الأصليين، واحتقار معتقداتهم، بل أحيانًا تشويهها وتجريمها. وهكذا تشكّلت طبقات من القطيعة بين الإنسان الإفريقي أو العربي وثقافته الأصلية، بحيث نشأ جيل لا يرى في موروثه سوى التخلف، بينما يُمجّد كل ما هو وافد ومستورد. ولم يكن هذا التدمير الثقافي نتيجة الصدفة، بل هو سياسة ممنهجة، تهدف إلى إبقاء الشعوب في حالة من التبعية الفكرية، بحيث لا ترى في نفسها القدرة على الإبداع أو التقدم خارج النماذج الغربية.
لكن ورغم هذا التاريخ الثقيل، لا تزال هناك فسحات من الأمل. لا تزال الحكايات الشعبية، والرقصات الطقسية والأمثال والحِكم حية في ذاكرة الشعوب، تنتظر من يعيد قراءتها وتفعيلها ضمن مشروع نهضوي جديد، يعيد للثقافة مكانتها بوصفها قوة تغيير لا تقل عن السياسة أو الاقتصاد.
إن الاعتراف بثقافة الآخر وتقدير تراثنا دون الشعور بالدونية هو الخطوة الأولى نحو تحرير الذات من آثار الاستعمار، وبناء مجتمعات أكثر وعيًا بجذورها، وأكثر انفتاحًا على المستقبل.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.