
د.أشرف مبارك
#ملف_الهدف_الثقافي
لم أستطع أن أودعك في المطار كما ينبغي، فقد كان المطار مزدحمًا بالمسافرين والمودعين، لكن دموعًا أفلتت من عيني دون أن أستطيع حبسها.
كل شيء كان يعج بالحركة إلا قلبي، فقد وقف، ينظر إليك وأنت تمضي. لم أتخيل قبل اليوم أن ذلك سيحدث. سافرتَ مرارًا، وودعتك مرارًا. ربما لم يكن صدري يمور مثل اليوم باللوعة، وربما كنت أستحي من أسرتي، وربما لأنك اليوم كل أسرتي وربما لأنك اليوم تضرب في الأرض طلبًا للرزق ولا ندري متى نجتمع، وربما وربما.. لكنني بينما كنت أمسك يدك كنت أرغب في وداع حار..
لم يكن يود أن يلتفت، لكنه التفت لوهلة فقط، رأيت وميضًا في عينيه لعله الدمع، أو ربما الخوف. كأنه يعلم أن في قلبي شيئًا يتصاعد كالبركان، لكنه آثر الصمت كما صمتُ أنا كل هذه السنين. كان يختبئ خلف وقاره دائمًا، لكن في لحظاتٍ نادرة كنت أراه ينظر إلى طويلا، كأنه يحادثني دون كلام. لا أدري متى بدأ ذلك، ربما حين كبرت، أو حين بدأت أتهرّب من النظر إليه. لم يكن يقل شيئًا، لكن عينيه كانتا تضيئان فجأة ثم تنطفئان سريعًا، كأن حبًا خجولا يتسلل ويخشى أن يُرى. لم نكن نحتاج إلى كلام. كأننا اتفقنا على الصمت، وصرنا نحفظ بعضنا كما تُحفظ الوصايا في القلب.
كان بيننا شيء لا يقال، شيء يشبه الوعد!؟ الوعد بيننا ثلاثتنا وعد صامت، وعد قديم. ذاكرتي تجيد التخزين. لم أنطق به ولا أنت ولا أبي.. لولا عينان، ودق طبول. كلما تقدم خاطب أحسست بالقول في صدر أبي: اصبري وانتظري ابن عمك. لم يكن ذلك من باب أن ابن العم أولى، لكنه كما لو أننا ثلاثتنا التقينا وتواعدنا أن أكون لك وتكون لي وأعطانا أبي المواثيق بذلك وكل منا ينتظر.
كنت أظن أنني أعرف قلبي، وأعرف ابن عمي الذي انتظرته كما ينتظر الناس القطار في المحطة البعيدة. لكن ذات مرة رأيت ظلي على الأرض لا يشبهني، يتجه نحو شيء لا أعرفه. كأن في داخلي شُرفة مفتوحة على حياة أخرى، لا يدخلها الضوء، ولا يزورها ابن العم.
كنت صغيرة عندما بلغتَ مبلغ الرجال، فكنت أراك طويلا ممشوق القامة، حلمًا يتابع كل البنات في ليالي الأرق بعد أن برزت صدورهن واختلف تكوينهن. صورة تلاحقني في نومي في يقظتي. إذا رأيتك انطلق وجهي بالبشر وأرى كذلك وجهك انتظرت طويلا، إذا استلقيت للنوم في الليل أحس بك طائرًا تملأ المكان فأمد يدي إليك فلا تلمسانك. وتدق طبول حتى أخاف أن توقظ النائمين. وإذا قمت في الصباح إلى الكلية أجدك غلالة رقيقة شفافة تلفني ليست من شيء ملموس، فإذا سرت في فناء الكلية لا يراني أحد من الفتيان إلا عينان كانتا ترمقانني فتدق ذات الطبول في صدري. كان يظهر فجأة كظل خارج الزمان، عيناه الخضراوان تشبهان بركة ماء راكدة، يحمل كتابًا بلغة لا أفهمها. أظنه مرة همس وقال: بعض الحكايات لا تُروى. منذ ذلك اليوم، أحس بأن عينيه تبحثان عني حتى عندما لا أريد. وإذا سرت في فناء الكلية لا يراني أحد.
وليلة عرسنا طار السقف وسقطت الجدران، وظننت أننا انكشفنا للناس، لكن الغلالة كانت تلفنا فحجبتنا عن العيون ولم تكن تلكما العينان تراقبانني. يموج صدري بإحساس غريب. شعور يريد أن ينطلق فاجتهد في إخفائه. وتخرجه عينا غريب تراقباني. تنتزعان مني كل اهتمام.. أحيانًا أراه في الكلية وأحيانًا في الطريق وأحيانًا في الحافلة، وتشغلاني عن الدرس في قاعة الدرس. يرتعش جسمي حين أراه وينتفض ويخالجني ذلك الشعور بالصوت الذي في داخلي، فما يشغلني عنه وعن نظراته إلا محاولتي لكبت الصوت.
وعندما آن الأوان للأمر الذي نعرفه، وعندما امتلأت الدار بالزوار وتسابقت الأيدي لإكرام الضيوف، وارتفعت الزغاريد والأصوات بالبشر وطرقعت الأصابع، أصبح صدري ضيقًا بما امتلأ في كل هذه السنوات، وآن للساني أن ينطق بما سكت عنه. ووجدت والدي يقف أمامي وشفتاه تتحركان. إنه يتكلم وصدري أصبح ضيقًا حرجًا.. رأيت الغريب يتقدم نحوي مسافة ووقف، عيناه مصوبتان نحوي، تقدمت نحوه مسافة ووقفت، ضاقت المسافة بيننا وكانت مسيرة أعوام. غمرتنا شلالات من السكون، صارت ترسل موجات تخرج من كلينا. ضاقت المسافة أكثر، تقاطعت الموجات ثم اندمجت حتى صارت تشكل جسمًا في منتصف الدائرة بيننا. وفي لحظة كان كل منا يعود أدراجه، رأيت كونًا جديدًا ينفتح أمامي، حجب عني ضجة الزوار. والصوت في صدري يعلو رويدًا رويدًا يكاد يشقه. تفانيت في كتمانه. واليوم ما عدت أذكره. وخلف زجاج المطار ظننتُ للحظة أني رأيت عينين خضراوين تذوبان في الزحام. أودعك وطفرت من عيني دمعة.
Leave a Reply