التجييش القبلي والجهوي في السودان: هل نُعيد كتابة مشهد الانفصال؟

(استنادًا إلى التصريح الإعلامي الصادر عن قيادة قطر السودان لحزب البعث العربي الاشتراكي، 10 يوليو 2025)

(2 – 7 )

أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

في يوليو( 2011)، بدا انفصال جنوب السودان نهايةً لصراع طويل ومعقّد، لكنه في حقيقته كان إعلانًا رسميًا عن فشل الحكومات المتعاقبة في بناء مشروع وطني جامع. لم يكن ذلك الانفصال مجرد خسارة جغرافية أو موارد، بل تجسيدًا لانهيار أعمق في العقد الاجتماعي، وتحول التنوع إلى عامل تفتيت، لا إثراء.

اليوم، وبعد أكثر من عقد من الزمن، نجد أنفسنا أمام واقع أكثر خطورة. ما كان صراعًا بين مركز وهامش، أو شمال وجنوب، أصبح اليوم تشظيًا داخليًا شاملًا. المعركة تدور في قلب العاصمة، وفي شرق البلاد وغربها، حيث تعلو رايات القبائل فوق راية الدولة، وتُستبدل المؤسسات الرسمية بمليشيات محلية، والمواطنة بانتماءات ضيقة.

وسط هذا الانهيار، يظهر حزب البعث العربي الاشتراكي بوصفه من القوى السياسية النادرة التي تمتلك ذاكرة استراتيجية طويلة. فقد نبّه مبكرًا منذ سبعينيات القرن الماضي إلى أن أخطر التهديدات التي تواجه السودان لا تأتي بالضرورة من الخارج، بل من الداخل: من تفكيك النسيج الوطني وتحويل التنوع الإثني والثقافي إلى أدوات للصراع.

أولاً: تحذير مبكر… ونبوءة مأساوية

في المؤتمر القومي السادس للحزب عام( 1971)، جاء تحذير صريح من مخططات لتفتيت السودان عبر استغلال تنوعه الإثني والديني، وليس عبر الحروب الكلاسيكية فقط. وقد أُدرج ذلك في أدبيات الحزب تحت عنوان (مخاطر التفكيك الناعم)، حيث أُشير إلى أن التفتيت يبدأ من ضرب المشروع الثقافي المشترك، وزرع الشك في هوية الدولة، ثم يتطور لاحقًا إلى صراعات مسلحة. وهو ما نراه اليوم بوضوح:

• أدلجة الهوية القبلية: لم تعد القبيلة وحدة اجتماعية فحسب، بل أصبحت كيانًا سياسيًا مسلحًا، يمتلك خطابًا وسلاحًا ونفوذًا. صارت الهوية أداة للفرز لا للاندماج.

• تسييس الجغرافيا: لم تعد الأقاليم مجرّد تقسيم إداري، بل أصبحت رموزًا للسيطرة، تُعرّف بالأغلبية الإثنية أو الولاء المسلح، وتحولت من خارطة وطنية إلى رقع متناحرة.

• تدويل الأزمة: الساحة السودانية باتت مفتوحة لتدخلات دولية وإقليمية، تُغذي النزاع بالسلاح والمال والدعم اللوجستي. لم يعد القرار الوطني نابعًا من داخل الدولة، بل مرتهنًا بصراعات المحاور الخارجية.

ثانيًا: الميليشيات كأدوات لهندسة الانقسام

الميليشيات القبلية لم تعد نتاجًا عارضًا للحرب، بل صارت جزءًا من المعادلة السياسية الجديدة، ووسيلة لتقسيم النفوذ وإعادة صياغة شكل الدولة، أو بالأحرى، ما تبقى منها.

1. قوات الدعم السريع بدأت كمليشيا محلية، ثم تحولت إلى جيش موازٍ. اعتمدت على التجنيد الإثني، ومارست سياسات تهجير وتطهير عرقي غير معلن. ثم استقلت بمشروعها، فصارت قوة خارج السيطرة، لا تعترف بشرعية الدولة المركزية.

2. الحركات المسلحة الدارفورية، بعد اتفاق جوبا، انقسمت إلى جناحين: أحدهما يمارس العمل السياسي، وآخر أعاد التموضع كمليشيا مناطقية تستند إلى قواعد جهوية وتحظى بدعم إقليمي واضح، ما يؤسس لدويلات محتملة داخل السودان.

3. المليشيات الأهلية الجديدة، في النيل الأزرق وكسلا والقضارف، نشأت كرد فعل على تهديدات الآخر، لكنها سرعان ما تحولت إلى أدوات هجومية تغذيها عقلية الغنيمة، لا الدفاع.

4. التحالفات العسكرية في شرق السودان (مثل (قرقر) و(تمنتاي))، مثّلت أخطر تحول: فبدلًا من التعبير السياسي عن مطالب التنمية، تحولت تلك المطالب إلى مشاريع مسلحة تلوّح بإغلاق الموانئ وفرض وقائع جهوية. ويُخشى أن تتحول منطقة الشرق إلى ساحة صراع إقليمي مباشر بين دول مثل مصر وإريتريا والإمارات.

ثالثًا: الخرطوم كمرآة للتفكك

العاصمة، التي كانت دائمًا مركز وحدة، تحوّلت إلى مرآة تعكس تفكك الدولة. فمنذ اندلاع الحرب في (أبريل 2023)، شهدت الخرطوم عمليات تهجير قسري غير مسبوقة:

1. أُفرغت بعض الأحياء بنسبة تفوق 45%.

2. أُعيد توطين جماعات إثنية معينة في مناطق محددة.

3. طُمست الهوية الحضرية للعاصمة، بإزالة الأسماء التاريخية، وتدمير السجلات الرسمية.

إن ما يحدث ليس عشوائيًا. بل هو عملية منظمة لإعادة توزيع الديموغرافيا على أساس الانتماء القبلي، ولإحلال هوية جديدة محل الهوية السودانية الجامعة. إنها محاولة لكتابة العاصمة من جديد، لكن بلغة السلاح لا بلغة الوطن.

رابعًا: رؤية حزب البعث – مشروع لإعادة تأسيس الدولة

في تصريحه بتاريخ 10 يوليو 2025، قدّم حزب البعث العربي الاشتراكي – قطر السودان، رؤية إنقاذ وطنية تقوم على أربع ركائز:

1. إعادة بناء الجيش الوطني:

أ‌. حل كل المليشيات ورفض أي توازنات قائمة على السلاح.

ب‌. إعادة دمج المقاتلين وفق معايير مهنية بحتة، بعيدًا عن الاعتبارات السياسية أو القبلية.

ت‌. تجريم كل أشكال العسكرة القائمة على الانتماء العرقي أو الجهوي.

2. إيقاف التغيير الديموغرافي:

أ‌. العودة الطوعية الآمنة للنازحين.

ب‌. حفظ السجلات والأرشيف المدني.

ت‌. وقف تحويل السيطرة المؤقتة إلى شرعية دائمة.

3. مصالحة وطنية شاملة:

أ‌. تحقيق عدالة انتقالية لا انتقائية، تُحاسب المجرمين دون أن تتحول إلى أداة انتقام.

ب‌. الاعتراف الصريح بالتنوع، لكن ضمن مشروع وطني مشترك، لا ضمن محاصصات تُعيد إنتاج الأزمة.

ت‌. عقد اجتماعي جديد يحدد “المواطنة” على أساس الحقوق لا الدم.

4. محاسبة محركي الحرب ومموليها:

أ‌. إحالة الجرائم ضد المدنيين إلى القضاء المحلي والدولي.

ب‌. تفكيك شبكات التمويل والنهب.

ت‌. فرض عقوبات دبلوماسية وقانونية على الأطراف التي تُغذي النزاع السوداني، إقليميًا ودوليًا.

خاتمة: الدولة أو العدم

السودان اليوم لا يقف على مفترق طرق، بل على حافة هاوية. الخيار ليس بين (استمرار الوضع) أو (التغيير)، بل بين وجود الدولة أو فنائها. ما يجري ليس فقط صراعًا مسلحًا، بل تفكك بطيء، وإعادة كتابة لخرائط الانتماء والانقسام.

رؤية حزب البعث لا تقدم وصفة سحرية، لكنها تذكير جوهري: إما أن نعيد تعريف مفهوم الوطن، أو نُمحى من الخريطة ونُصبح مجرّد مساحات يتقاتل فيها أمراء الحرب. إما أن نستعيد الدولة، أو نُدفن تحت أنقاضها.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.