
أمجد أحمد السيد
#ملف_الهدف_الثقافي
في فضاء الأغنية السودانية تشع أعمالا بعينها، بوهج خاص، لأنها تتجاوز وظيفة الطرب إلى التعبير عن جراح القلب السوداني، وحنينه الأزلي للمحبة والسكينة. من بين تلك الأغنيات التي استقرت في وجدان المستمع تقفز “ارجع تعال عود ليا”، من كلمات وألحان وغناء الفنان محمود تاور، كعمل غنائي مشبع بالوجد، مترع بالحنين، عابق بنداء لا ينقطع.
الأغنية تُبنى على مناجاة متكررة، يبدأ بها تاور صوته كمن يُرسل نداءً في ليل بعيد:
ارجع تعال عود ليا .. رجّع حنانك ليّا
وادفني في جواك.. وشدّد حراسه عليّا
هنا لا يُناجي الحبيب فحسب، بل يناجي الستر والأمان والوطن الداخلي.. يستصرخه بأن يُعيد إليه الحنان، لا كموقف عاطفي مؤقت، بل كخلاص دائم، وهو ما يجعل هذه الأغنية أشبه بتضرع أو دعاء.
يصل تاور إلى ذروة الصورة الشعرية حين يغني:
والله أجمل سكنه.. عينيك قصاد عينيا
فالعين تتحول إلى مكان للسكنى.. إلى وطن. ليست مجرد نظرة، بل حضن بصري يحتوي الشاعر، ويمنحه الإحساس بالطمأنينة. هذه الصورة المجازية العذبة تُعد من أكثر مقاطع الأغنية رسوخًا في ذاكرة المتلقين.
الأغنية تعبر عن حب خاص لا يشبه سواه، لا يُقاس ولا يُدارى أمام العامة:
حبي ما زي غيرو.. اداري فيهو واشيلو
ومن عيون الناس.. عشان عزول ما يطولو
هذه الأسطر تفتح نافذة على ثقافة الحب في السودان، حيث العلاقات تُخاض بحذر، وتُصان من تدخلات “العُزّال” وعيون المراقبين، مما يُضفي على العاطفة خصوصية وحِرزًا.
حتى عندما يعاند الحبيب لا يتراجع الشاعر، ولا تاور عن حبه:
لو عنادك زاد.. وغيرت زي مابقولو
انا حبي رجّعو ليا.. كل زول يفارق زولو
هو إصرار المحب الذي يتعامل مع الغياب كعقبة مؤقتة، ومع العناد كعرض زائل، أمام عاطفة عميقة لا تفتر..
يُختتم النص الغنائي بصورة تختلط فيها الأمنية بالحلم، والألم بالرجاء:
اليوم رجع عاد ليا.. ويطفي اللهيب البيا
لو يوم رجع عاد ليا..
اشيل حبيبي وازور.. وانده بَنِيّا بَنِيّا
هذا المقطع يبدو كأنه لحظة انتصار.. لكن لا شيء يؤكد تحقق الرجوع، ربما هو خيال الشاعر الفنان، وربما رغبة دفينة في استعادة المفقود.
“ارجع تعال عود ليا” ليست مجرد أغنية رومانسية من أرشيف الفنان محمود تاور، بل هي وثيقة وجدانية عن كيف يحب السوداني، وكيف يتألم، وكيف ينتظر الرجوع. تفيض الأغنية بالمشاعر، لكنها لا تنجرف إلى العاطفية الزائدة، وتحافظ على توازن شعري وإنساني رفيع. ولعل ما منحها هذا العمق هو الأداء الدافئ الصادق لتاور، الذي جعل من كلماتها مرآة لقلوب كثيرة.. تنتظر العودة، وتؤمن أن الحنان حق يمكن استرداده.
أغنية يمكن أن تُغنّى، وتُبكى، وتُردّد في صمت القلب.. لأنها ببساطة، تقول ما نعجز عن قوله.
Leave a Reply