أصوات الفراق

آدم كوداري
#ملف_الهدف_الثقافي
في عنبرٍ باردٍ مكتظٍّ برجالٍ أنهكتهم الحمى والأوجاع، كان كوكو ممدّدًا فوق سريرٍ حديديٍّ في مستشفى كادقلي التعليمي. يرفع سماعة الهاتف إلى أذنه بيدٍ مرتعشة، يهمس بصوتٍ متهدّجٍ لحبيبته كاكا: “وأنا أيضًا.. أكيد، أكيد ستبقين ذكرى جميلة في حياتي..”
لم يكن اتصال كاكا مجرّد سؤالٍ عن حالته؛ بل كان صرخة نجاةٍ من خوفٍ كاد يبتلع قلبها. منذ أن بلغها نبأ إصابته بملاريا خبيثة، اشتعلت دموعها كالنار. بحثت عن أي خيطٍ يصلها به، حتى اهتدت إلى رقم الهاتف الذي تحمله والدة كوكو.
ما إن سمعت الأم اسم كاكا على الطرف الآخر، حتى انفجر حزنها المكبوت، وتفجّرت الدموع في صمت المستشفى الموحش. مدّت السماعة إلى ابنها المحموم، الذي تاه صوته بين شهقاتٍ متقطّعة: “وأنا أيضًا.. أكيد، أكيد”..
في كادقلي، كانت الحرب تأكل الأرواح قبل الأجساد. الشباب هم الأكثر ضياعًا؛ مَن قُتل منهم، ومن هاجر، ومن ضاع حلمه بين ركام المدارس والبيوت، ومن تاه باحثًا عن فرصةٍ لحياةٍ أقلّ قسوة.
وفي السابع والعشرين من أبريل 2023، كتب القدر سطرًا مفصليًا في قصة حبٍّ امتدّت سبع سنواتٍ بين كوكو وكاكا. يومٌ علق في الذاكرة إلى الأبد، يومٌ لم تُشفى منه القلوب حتى الآن.
بعد أن خرج كوكو من المستشفى، كان جسده هشًّا، وروحه أكثر هشاشةً. نظر إلى حبه القديم كأنه ذنبٌ لا يريد أن يُثقِل به حياة كاكا. اتّخذ قرارًا قاسيًا: أن يقطع ذلك الحبل المقدّس بينهما. لم يشاء أن تبقى معلّقةً في رقبة شابٍ بلا عمل، يطارده شبح الحرب في كل ركنٍ من حياته.
هرب كوكو إلى سوق النعام، يفتّش عن رزقٍ ضائعٍ بين الوجوه المهاجرة. وهناك ذاب خبره في زحمةٍ من الأحلام المكسورة. وبعد ثلاثة أشهر أُسدِل الستار على تلك القصة من طرفٍ واحد: كاكا تزوّجت من شابٍ نازحٍ جاء من الخرطوم إلى كادقلي، لعلّها تجد معه ظلّ أمانٍ وسط صقيع الحرب.
رحل كوكو حاملا جرحًا لا يندمل. وبقيت كاكا تحتضن ذكرى همسٍ قديمٍ على سريرٍ بارد: “وأنا أيضًا.. أكيد، ستبقين ذكرى جميلة”.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.