حرب السودان: كيف تحوّل الصراع الداخلي إلى ساحة للصراعات الخارجية؟

(1- 7)

أ.طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

التمهيد: ليست الحرب في السودان مجرد حدث عسكري عارض، بل هي تجلٍّ مأساوي، لحظة تتداخل فيها السياسة والاقتصاد، الدين والقبيلة، السيادة والتكنولوجيا، في صورةٍ انفجارية تعيد ترتيب شروط الاجتماع السوداني من الجذور. لقد غادرنا منذ زمن ساحة الصراع السياسي التقليدي، ودخلنا مسرح (الدم بوصفه خطاباً)، حيث يُستثمر العنف لا فقط لتدمير الآخر، بل لإعادة إنتاج الذات المهزومة نفسها كفاعل في نظام عالمي لا يرى في السودان إلا حقل اختبار لما بعد الدولة.

وفي هذا السياق، يمكن فهم تصريح حزب البعث العربي الاشتراكي الصادر في (10 يوليو 2025 )،كوثيقة تحليلية تتجاوز التحليل السياسي السطحي، لتقدّم تشخيصاً جراحياً لأعطاب السيادة والبنية الوطنية. حين يحذّر التصريح من (تصعيد الطيران المسيّر كمدخل للتدخلات الخارجية)، فإنه لا يصف أدوات الحرب فقط، بل يعري بنيتها: كيف يُدار الخراب من خارج الحدود، وكيف يُستخدم التجييش القبلي لا كآلية تعبئة داخلية، بل كعُملة صالحة للتداول في بورصة الجغرافيا السياسية. كل ذلك يعيدنا إلى (اتفاقية نيفاشا) التي زرعت بذور التجزئة، لنكتشف أن الحرب السودانية ليست مجرد خطأ في التقدير، بل هي (استراتيجية تفتيت مدارة بعناية) – مشروع عنف يتقن استثمار فشل الدولة في إنتاج هوية موحّدة.

أولاً: تصعيد الأسلحة: العقل الآلي للحرب وإدارة التدمير: في هذه المرحلة من التاريخ السوداني، لم تعد الحرب تُدار بأيدي المقاتلين وحدهم، بل باتت تدار بواسطة ما يمكن تسميته (العقل الآلي للعنف)، حيث تتحوّل التكنولوجيا من وسيلة للهيمنة إلى ذات فاعلة في تشكيل الحدث نفسه.

1. الطيران المسيّر والمسيرات القتالية: المسيّرات ليست مجرد أدوات عسكرية، بل تمثّل تجسيداً لتلك الحرب(النظيفة) التي تريد القوى الكبرى تسويقها، حيث لا جنود يُقتلون من الجهة المُطلِقة، بل ضحايا يتساقطون عن بُعد دون أن تُلطّخ اليد بالدم مباشرة. هذا (التعقيم الأخلاقي) للحرب يجعلها أكثر قابلية للاستمرار، ويحوّل المدنيين إلى رهائن في مسرح دموي بلا مشهد ختامي. حيث تصبح التكنولوجيا نفسها هي مُخطط الحرب، لا فقط أداتها.

2. اقتصاديات الحرب الخفية: إنتاج المسيّرات محلياً – بغطاء تقني إيراني أو تركي – لا يعكس فقط تطوراً في الذكاء الحربي، بل في (الذكاء الاقتصادي للدمار): تحويل بلد مفكك إلى مركز لوجستي لتجارة الموت. فبمجرد أن يتحول السلاح إلى سلعة رائجة، يصبح استمرار الحرب هو السياسة الوحيدة الممكنة. فحين تتحول الجريمة إلى اقتصاد، يصبح النظام القانوني هو العدو الأول. وهنا، تُصبح الدولة الوطنية نفسها عائقاً أمام منطق السوق الحربية.

ثانياً: التدخلات الخارجية: تشريح لجسد السودان الممزّق: السودان لم يعد كيانا سياديا مستقلاً، بل غدا بمثابة (جثة سياسية ساخنة) تتنازعها سكاكين لعبة القوى الكبرى على خريطة الأرض. في هذا السياق، لا يمكن قراءة الحرب بمعزل عن تشابكات الخارج، حيث تتقاطع مصالح المحاور الإقليمية والدولية، لا بهدف إنهاء الحرب، بل لتدويرها بما يخدم استراتيجيات الهيمنة.

1. المحور الإقليمي: في خضم الحرب السودانية، تبرز قوى إقليمية تتعامل مع الحرب ليس كأزمة إنسانية، بل كفرصة جيوسياسية واقتصادية:

أ‌. مصر: لا ترى السودان بوصفه جاراً، بل جداراً أمام أشباح سد النهضة، وجسراً للضغط على إثيوبيا دون كلفة عسكرية مباشرة. دعمها للجيش السوداني ليس خياراً وطنياً بل امتداد لحسابات أمن مائي واستراتيجي أعمق.

ب‌. الإمارات: تصوغ أبو ظبي رؤيتها للسودان كنسخة أخرى من (ليبيا دارفور)، حيث السيطرة لا تُمارس من القصر الجمهوري، بل من مناجم الذهب وشبكات الولاء. عبر الدعم السريع، تُصدّر الإمارات نموذج (أمراء الحرب)، حيث تتلاشى الدولة المركزية، وتُدار الأرض عبر الشركات الأمنية الخاصة.

ت‌. إثيوبيا: من خلف ستار التصريحات الدبلوماسية، تعمل أديس أبابا على (تحييد السودان) وتحويله إلى فضاء حدودي آمن – و قناة خلفية للبحر الأحمر، ومنطقة تفريغ لأزماتها الداخلية.

ث‌. إريتريا وتشاد: حدود مشتعلة، بينما تركز الأضواء على مصر والإمارات، تلعب دول الجوار الأفريقي أدوارًا حاسمة في إطالة أمد الحرب. فإريتريا – التي تربطها عداوة تاريخية مع إثيوبيا – تدعم المليشيات عبر حدودها الشرقية. أما تشاد، فقد تحولت إلى ممر لتهريب الأسلحة باتجاه دارفور، حيث تُستخدم شبكات القبائل المشتركة كواجهة لتمويل المتحاربين. هذه الأدوار تُظهر أن الحرب السودانية ليست صراعًا محليًا، بل حلقة في سلسلة أزمات القرن الأفريقي.

في قلب الحرب السودانية، تتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية ضمن ما يمكن تسميته بـ(اقتصاد الحرب الرمادي)، حيث يتم تسليع السيادة، وتحويل الصراع إلى منصة للمقايضة بين السلاح والموارد. هنا تبرز قوتان تلعبان دوراً غامضاً – لكن فاعلاً – في تغذية الحرب واستثمارها:

أ‌. إيران: (الذهب مقابل الدرونز) لا تكتفي طهران بدعم مليشيات محلية بالسلاح والخبرة، بل حولت شرق السودان إلى امتداد جغرافي غير معلن لمشروع (الهلال الشيعي)، عبر شبكات تابعة لحزب الله اللبناني ومجموعات تهريب محلية. في هذا الإطار، تحصل إيران على ممر آمن لتهريب الذهب السوداني – أحد أنقى أنواع الذهب في العالم – إلى طهران عبر مسارات تمر بإريتريا، بما يُمكّنها من التحايل على العقوبات الغربية الصارمة، وتحقيق استقلال جزئي في وارداتها من العملة الصعبة. في المقابل، تزود إيران المليشيات السودانية بطائرات مسيّرة من طراز (شاهد-136)، تُستخدم في عمليات قتالية حضرية بدقة عالية. هذه الصفقة لا تعكس فقط تقاطع المصالح، بل تُمثّل (نقطة اختبار ميداني) للأسلحة الإيرانية قبل تصديرها إلى جبهات أخرى (مثل اليمن أو لبنان). كما استغلت طهران حالة الفراغ السلطوي لتجريب قدراتها على الأرض، في ما يشبه “تدريباً حياً” لعقيدتها في حروب الوكالة.

ب‌. الكيان الصهيوني: (التطبيع الخفي ومراقبة البحر): رغم تجميد مسار التطبيع الرسمي منذ اندلاع الحرب، لم تغادر (إسرائيل) المشهد السوداني. بل أعادت تموضعها في الظل، عبر تحالفات مع كيانات اقتصادية غير رسمية في أوغندا وجنوب السودان. من خلال شركات مثل (منحة تكنولوجيز) – وهي واجهة تجارية استخباراتية – يتم شراء الذهب السوداني المُهرَّب بأسعار زهيدة، في واحدة من أوسع عمليات إعادة تدوير للثروات غير الشرعية في شرق أفريقيا.أما في المجال الأمني، فيستخدم الكيان الصهيوني  تقنيات تجسس إلكترونية  لرصد تحركات الفاعلين العسكريين على ساحل البحر الأحمر، خاصة في محيط ميناء بورتسودان. الهدف ليس فقط حماية مصالحه الاستخباراتية، بل ضمان ألا يتحول البحر الأحمر إلى مجال نفوذ إيراني أو روسي. هنا، لا تنبع المصالح الصهيونية من ارتباطات سياسية ظرفية، بل من مشروع استراتيجي أوسع – تحويل البحر الأحمر إلى (مياه صديقة) تحيط بها قواعد أمنية وتجارية صديقة، في إطار إعادة تشكيل حدود ما يُسمّى بـ(الشرق الأوسط المُعاد ترسيمه(.

2. المحور الدولي: في خضم الحرب السودانية، تبرز قوى دولية تتعامل مع الحرب ليس كأزمة إنسانية، بل كفرصة جيوسياسية واقتصادية:

أ‌. الولايات المتحدة: تتعامل مع السودان كما تعاملت مع العراق بعد الغزو (2003)، أزمة يجب أن تظل (غير قابلة للحل) حتى تُدار إلى الأبد. المطلوب هو منع الخصوم (روسيا، الصين) من دخول الساحة، لإنهاء النزيف.

ب‌. روسيا: وجود فاغنر ليس مجرد مغامرة مرتزقة، بل جزء من استراتيجية كبرى، حيث ربط دارفور بالذهب، وربط الذهب بالأسواق الرمادية في أفريقيا الوسطى، وربط كل ذلك بالانسحاب الأمريكي البطيء من القرن الأفريقي.

ت‌. الصين:( التنين الصامت): تتبع بكين سياسة (عدم التدخل العلني)، لكنها تستثمر في الخفاء: شركات صينية (مثل نورينكو) تستغل الفوضى لشراء أراضي زراعية شاسعة في الجزيرة عبر وسطاء محليين. كما تدعم الصين الجيش السوداني بشكل غير مباشر عبر مصر، لضمان حماية مشاريعها في ميناء بورتسودان. وتعتبر الصين السودان جزءًا من مشروع (الحزام والطريق)، لكنها تنتظر انتهاء الحرب لتعلن استثماراتها الكبرى.

ثالثاً: البحر الأحمر: لم يعد البحر الأحمر مجرّد ممرّ تجاري، بل تحوّل إلى (حقل مغناطيسي للسيادة المتعدّدة)، حيث تتقاطع فيه رؤى الهيمنة، ويتحول السودان إلى محور تنازُع ناعم بين الشركات الأمنية والدول المارقة.

1. الموانئ كأداة هيمنة: الصراع بين تركيا والإمارات على بورتسودان وسواكن لا يعكس فقط تنافساً اقتصادياً، بل رؤية ميتافيزيقية للسلطة. من سواكن العثمانية إلى بورتسودان النيوليبرالية، يُعاد رسم خريطة السيطرة لا عبر الجيوش، بل عبر العقود والعطاءات.

2. البعد الصهيوني: محاولة دمج السودان في تحالف البحر الأحمر (قبيل الحرب) لم تكن مشروع تطبيع فحسب، بل مشروع تموضع (إسرائيلي) ناعم في البوابة الشرقية لأفريقيا. مع اشتعال الحرب، عاد السودان إلى وضعه المفضل في الأدبيات الاستعمارية: (دولة فاشلة جاهزة للاستثمار (

فالبحر الأحمر لم يعد مجرد ممر مائي، بل ساحة لـ(السيادة المشتركة) حيث تتنازع الشركات الأمنية والدول على الموارد، كما حدث في ميناء بورتسودان الذي تسيطر عليه شركة (أميركو) الإماراتية منذ 2023.

الخاتمة: إنّ الحرب السودانية لا تمثّل خللاً عابراً في مسار الدولة، بل تعبيراً صارخاً عن تفكك المشروع الوطني، وانهيار سيادة كانت دوماً هشّة. إنها حرب وظيفية في ثلاثة مستويات:

– مصدر تراكم ثروات لنخب الداخل.

– أداة تفاوض جيوسياسي لقوى الإقليم.

– مختبر للهيمنة الجديدة في نظام عالمي ما بعد الدولة.

في هذا السياق، لا تكون الثورة إعادة إنتاج للصراع المسلح، بل هي عملية تفكيك بنيوي – ثقافي – رمزي لبنية التبعية. ينبغي أن تصبح الثورة فضاءً لإعادة تعريف السيادة، لا فقط استعادة الدولة.  حيث يواجه السودان أسئلة وجودية: كيف يُعاد بناء دولة من ركام اقتصاد الحرب؟ الإجابة قد تكمن في نماذج مثل بنوك التكافل المجتمعي، التي حوّلت التكافل من فعل خير إلى سلاح مقاومة. ومواجهة الحرب لا تكون بتوقيع الهدن، بل بإعادة هندسة شروط الاجتماع، والبناء الجبهوي الشعبي العريض للديمقراطية والتغيير، كشرط جوهري لإيقاف الحرب وبناء الدولة الوطنية.

#الجبهة_الشعبية_العريضة_للديمقراطية_والتغيير

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.