
الشعب أقوى والردة مستحيلة): من صرخة ثورية إلى عقيدة تحرر
أ. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة
في كل لحظة انعطاف تاريخي، تولد كلمات لا تموت. كلماتٌ تشبه البذور التي تُزرع في تربة الوعي، وتنبت حين تشتد المحن وتتمايز الصفوف. من هذه الكلمات، نهض شعار: (الشعب أقوى والردة مستحيلة) لا كصرخة عابرة في زحام الشعارات، بل كجوهر فلسفي – سياسي يشكّل النواة الصلبة لعقيدة التحرر السودانية المعاصرة.
لقد أطلق هذا الشعار الأستاذ بدر الدين مدثر (عليه رحمة الله) – امين سر قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي قطر السودان – في ندوة مشهودة عام (1985)، مستبقًا به خرائط الاستبداد القادم باسم الدين، ومكرّسًا به معادلة الكرامة الشعبية ضد الردة السياسية. لكن مع اتساع تجربة النضال، وتنامي المعاناة، وتجذر الوعي، تحوّلت هذه الجملة إلى ما يشبه (العهد الوطني).
وفي حوار، أشار الأستاذ أبوبكر ضياء الدين إلى أهمية الكتابة عن هذا الشعار باعتباره لحظة وعي لا يجوز أن تُختزل، مؤكدًا أن (الشعب أقوى والردة مستحيلة) ليست مجرد عبارة، بل أفقٌ أخلاقي واستراتيجي لبناء جبهة ديمقراطية شعبية عريضة، تجعل من الردة مستحيلة لأنها ضد منطق التاريخ لا فقط ضد موازين القوة.
أولاً: الشعب كقوة – (الوجود السياسي الجديد): في هذا الشعار تتجسد ثنائية: (الشعب) لا كمجموع سكاني، بل كذات تاريخية اكتسبت الوعي بالفعل الجماعي، و(الردة) لا كحدث، بل كنكوص روحي وارتكاس قيمي.
فـ (الشعب أقوى) تعني أن القوة لا تُقاس بالأسلحة، بل بالقدرة على التحمل، على الحلم، على مقاومة الانكسار. إنها ذاتية الحرية في مواجهة موضوعية القهر. أما (الردة مستحيلة)، فليست تعبيرًا عن الاستحالة الفيزيائية، بل عن تحوّل الشعب إلى كائن جديد، لا يمكن إعادته إلى قفص الاستبداد لأنه – ببساطة – أصبح يدرك ذاته كفاعل لا كمفعول به.
وهنا تبرز الفلسفة العميقة التي حملها هذا الشعار: لقد دخل الشعب السوداني دائرة (الوعي الثوري)، ولم يعد يطلب الحرية بوصفها عطية من النخبة، بل كحقّ أصيل لا يُساوَم عليه.
ثانياً: الشعار كذاكرة مضادة للنسيان: عندما أُعيد إحياء الشعار في انتفاضة ديسمبر الثورية، لم يُبعث فقط من الماضي، بل استُدعي من عمق الوجدان الجمعي، ليصبح كأنما وُلد في تلك اللحظة تحديدًا.
لقد امتزجت كلماته بدماء الشهداء، فصارت مانفيستو أخلاقيًا للثورة. ومن قلب التظاهرات في الخرطوم والأبيض ومدني ونيالا، خرج الصوت واحدًا: (الشعب اقوى والردة مستحيلة)، لا كتهويم طوباوي، بل كوعي يتحدّى التزييف السياسي، ويرفض إعادة إنتاج القهر بأقنعة جديدة.
وهكذا، تحوّل الشعار إلى رمز تراجيدي–ثوري، يعبر عن وجع المرحلة لكنه يمنحها المعنى. وكأنما هو التعبير السوداني الخاص عن جدلية (الأمل واليأس)، حين يتحول (الأمل إلى وعي نشط، لا انتظار سلبي).
ثالثاً: البعد السياسي–الاستراتيجي: من المقاومة إلى البناء: هذا الشعار لا يكتفي برفض الماضي، بل يرسم حدود المستقبل. إنه يُقصي (الحل الزائف) و(الانتقال المعطوب) و(التسوية الخدّاعة)، ليؤكد أن أي مشروع للعدالة لا يقوم على الإرادة الشعبية الكاملة – دون وصاية أو وصي – هو مشروع مُجهَض سلفًا.
) الشعب أقوى) إذًا، ليس فقط في لحظة المواجهة، بل في مرحلة ما بعد النهوض: في إعادة بناء الدولة، في صياغة العقد الاجتماعي الجديد، في تحطيم الاستبداد المؤسسي والثقافي، لا فقط السياسي والعسكري.
رابعًا: الشعب في مواجهة الردة: بين الممكن والحتمي: الردة ليست احتمالًا عابرًا بل مشروعًا متربصًا. وهي لا تأتي دائمًا بلباس العسكر، بل أحيانًا بربطة عنق مدنية وشعارات براقة. ولذلك، فإن (استحالة الردة) لا تعني نهاية الخطر، بل تعني أن الشعب اكتسب المناعة الفكرية والرمزية لمواجهة الفيروس. ولعل أعظم وظيفة للشعار هي أنه رسم خطًا أحمر حول التجربة، خطًا لا ينبغي تجاوزه في أية تسوية سياسية أو تحالف مستقبلي.
خامسًا: من الشعار إلى الجبهة إن شعار (الشعب أقوى والردة مستحيلة) لا يكتمل إلا في بنية تنظيمية تليق بمضمونه: جبهة شعبية ديمقراطية عريضة، لا يُقصى فيها أحد، ولا يُختزل فيها الشعب في فئة أو طبقة أو حزب. جبهة تنتمي للناس، وتحمل قضاياهم اليومية، وتجعل من النضال وسيلة لبناء وطن لا مجرد استبدال حاكم. فالردة ليست فقط الانقلاب، بل كل مشروع يعيد إنتاج الدولة الفاشلة، وكل خطاب يُفرّغ الثورة من مضمونها التحرري والإنساني.
خاتمة: الشعار كفلسفة مقاومة وبوصلة أمل:
) الشعب أقوى والردة مستحيلة) ليس ترفًا بل ضرورة. إنه ليس مجرد شعار نُردده، بل عقيدة نعيشها. هو روح الثورة في مواجهة التآمر، وهو الدليل في متاهة اللحظة، وهو التعاقد غير المكتوب بين أجيالٍ قررت أن تبني وطنًا لا يُباع ولا يُشترى.
وإذا كانت الهزيمة ممكنة في السياسة، فإنها مستحيلة في الوعي. فالشعب، وقد وعى ذاته، لا يعود إلى القيد، بل يواصل المسير نحو حريته، مهما طال الطريق. كما قال الأستاذ أبوبكر ضياء الدين: (لا يكفي أن نهتف، بل علينا أن نكتب، أن نؤرخ، أن نُذكّر… لأن الردة تبدأ من النسيان، والانتصار يبدأ من الذاكرة).
إلى ذلك اليوم، سيبقى الشعار خندقنا الأخلاقي وسلاحنا الرمزي: (الشعب أقوى… والردة مستحيلة. )
#نحو_جبهة_شعبية_عريضة_للديمقراطية_والتغيير
Leave a Reply