العدالة الغائبة عن حكومة بورتسودان 1- 2

المستشار القانوني أبوبكر عبد الله آدم

تعيين الدكتور عبدالله درف لم يكن مفاجئًا للمراقبين للمشهد السياسي عن كثب. فالرجل عضو في المؤتمر الوطني وتقلب مناصب وزارية وتشريعية هامة في ولاية كسلا، إبان حكم البشير، الذي ظل داعمًا له حتى سقوطه.
بالرغم من تأهيله الأكاديمي وخبرته في مجال القانون العام، خاصة القانون الدستوري، إلا أن دكتور درف استخدم معرفته لا لتحقيق العدالة بل لتقويضها وتغبيش الوعي. مثلًا في مقال له في يونيو 2023، ردًا علي من أسماهم”محامو الشيطان” بسبب مطالبتهم للمحكمة الجنائية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية من طرفي النزاع الحالي في السودان، قدم تبريرات عن انتفاء الولاية الجنائية للمحكمة بمسوغات تكشف، إما جهلًا مخجلًا لمن في مقامه بالقانون الجنائي الدولي، وهذا هو المرجح عندي، محاولة بائسة لاستخدام أدوات ومفردات قانونية لاستغفال “بعض الناس لكل الوقت” من أجل التعبير عن ولائه لقيادة الجيش وانحيازه لها في هذه الحرب العبثية باعتراف قائد الجيش نفسه. فقد جاء في مقاله (…المشتغليين بالقانون يعلمون أن المحكمة الجنائية الدولية أنشأت وفقًا للنظام الأساسي لميثاق روما، وهي اتفاقية بين مجموعه من الدول، الانضمام أليها اختياري ولا تسري أحكام تلك الاتفاقية الا في مواجهة الدول الأعضاء..ومعلوم أن السودان ليس عضوًا بالميثاق المذكور ولم يصادق عليه وبالتالي لاتنعقد سلطة للمحكمة الجنائية في مواجهة السودانيين …). هذا القول فيه درجة غير قليلة من الاستهبال، لأن العضوية في ميثاق روما، كما يعلم كل المشتغلين في القانون، ما هي إلا واحدة من ثلاث حالات تمنح المحكمة اختصاصًا جنائيًا. الحالة الثانية هي ارتكاب مواطن أو مواطنو دولة مصادقة علي ميثاق روما، أحد الجرائم الدولية الأربع المنصوص عليها في الميثاق في دولة سواء كانت مصادقة أو غير مصادقة. أما الحالة الثالثة هي أن تتم إحالة وضعية معينة للمحكمة الجنائية الدولية بواسطة مجلس الأمن . لا شك بان الدكتور درف يعلم بقرار مجلس الأمن 1593 والاختصاص القضائي، الذي منحه هذا القرار للمحكمة للنظر في أي جريمة حرب، جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية في دارفور. الاستثناء الوحيد هو جريمة العدوان لتعقيدات خاصة بهذه الجريمة وترتيبات الزاميتها حتى للدول الأعضاء في ميثاق روما. إذًا لم يخطئ الأستاذ معتز حضرة وزملاؤه ممن أسماهم الدكتور بمحاميي الشيطان، بمطالبة المحكمة الجنائية بالقيام بالتزامها القانوني والتحقيق في الجرائم، التي ارتكبها طرفي الحرب، أو أي منها في دارفور، وفقًا لقرار الإحالة. ولا يساورني أدنى شك بأن الدكتور يدرك ذلك ولكنه أراد استخدام القانون كآلية لأبلسة من لهم رؤى ومواقف لا تدغدغ هواه أو غرضه السياسي للتعبئة لمساندة الجيش في حربه ضد الدع-م الس-ريع. لأن الدكتور نفسه استدرك موضوع الإحالة بقوله “وقد يقول قائل الآن هناك مواطنين يحاكموا أمام المحكمه الجنائية الدولية ..نقول نعم …ولكنهم يحاكموا وفقًا للإحالة، التي تمت من مجلس الأمن لجرائم محددة، أُرتكبت في دارفور في سنوات محددة بقرار الإحالة …وهذا يعني أن الاختصاص لم ينعقد للمحكمة الجنائية، إلا أستنادًا لقرار الإحالة….ولا تستطع المحكمة الجنائية الدولية نظر أي قضايا أخرى خارج تلك، التي أحالها لها مجلس الأمن “. وهذه الفقرة تكشف درجة التشويش في رؤية الدكتور للإحالة أو رغبته في التشويش على قراءة و”سواقتهم بالخلا” وهو يهش عليهم بمفاهيم قانونية فخيمة يقوم بتفخيخها قصدًا في غالب الظن، والظن في المجادلات القانونية مطلوبة وليس من البعض الإثم.
كما هو واضح من الفقرة المقتبسة أعلاه، بعد اعترافه باختصاص المحكمة للنظر في الجرائم الدولية الثلاث، التي تقع في دارفور، وفقًا لمبدأ الإحالة، حاول الدكتور تقييد هذا المبدأ بقيدين متوهمين، الأول هو أن الإحالة لجرائم محددة، أما الثاني فهو أن هذه الجرائم المحددة أُرتكبت في دارفور في سنوات محددة.
الدكتور يقوم في هذه الفقرة المقتضبة بعملية تمويه مركبة بحرفية كبيرة (double ) فالقيد الأول قيد حقيقي تم تقديمه في “شكل مقلب”. المشتغلون بالقانون يعلمون بأن المحكمة مختصة وفقًا لميثاقها للنظر في أربع جرائم محددة وأن الإحالة اقتصرت على ثلاث منها لأسباب موضوعية تم التلميح لها أعلاه. إذًا قول الدكتور صحيح في ظاهره ولكن الغرض مرض، لأن القول جاء في سياق نقد مسعى محامون وطنيون يطالبون بفتح تحقيق حول هذه الجرائم المحددة ومحاسبة مرتكبيها من طرفي الحرب الراهنة. وهذه الجرائم المحددة في ميثاق روما وقرار الإحالة في مارس 2004 هي جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية. الأرجح عندي هو أن الدكتور يعلم ذلك ويعلم أن الأستاذ حضرة وزملاؤه يعلمون ذلك ولكن ما يعني الدكتور، بصياغة هذا القيد الملتبس أوهامًا، هو ألا يعلم من يود أن يهش عليهم بعصا أستاذيته بتركه هذا القيد معلقًا على احتمالات المجهول القابل للانفتاح على ممكنات كثيرة، منها أن العريضة ربما تكون ” شايته برة” بلغة عشاق كرة القدم تحديدًا.
إذًا، القيد الأول هو عود معوج مغروس على أرضية الحق ولكن القيد الثاني هو منطق مبني على هاوية الجهل أو التجهيل. من المخجل جدًا أن يروج الدكتور بأن الولاية أو الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية على الوضعية في دارفور مرهون بقيد زمني في خطاب يناقض أوله آخره. المحكمة الجنائية الدولية ليس مختصة للنظر في الجرائم الدولية، التي وقعت أو تقع في دارفور في سنوات محددة، بل هي مختصة منذ تاريخ الإحالة في مارس 2004حتى اليوم وغدًا أو فالنقل حتى يصدر قرارًا من مجلس الأمن بانتهاء ولاية المحكمة. وهو أمر لم يحدث من قبل ولكن لا عجب لأن قرار الإحالة نفسه كان أول قرار يصدر عن مجلس الأمن، بعد أن تم إنشاء المحكمة وبدأت في ممارسة مهامها عام 2022. بل لا عجب أيضًا، لأن البشير كان أول رئيس دولة ما زال على قمة السلطة، طالبت المحكمة الجنائية مثوله أمامها.
القيديدان المضللان، وضعهما الدكتور على ميزان العدالة تم قفلهما باستخدام “طبل” ظل “المطبلاتية” يطبلون حولها وعليها ليل نهار حتى يصبح الدكتور وزيرًا له مفاتيح تفتح كل عقد العدالة المغلقة. مفاتيح تفتح كل الأبواب ولا يملكها إلا لص أو عسكر.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.